TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
مقهى الخيول السوداء
11/12/2014 - 2:00am

طلبة نيوز-أ.د. سلامه طناش

كان في ريعان الشباب يتمختر طولا وعرضا في سهول قريته الطيبة بأرضها وسكانها. يقرأ في كتبه الإنسانية ربيعيا مثل الألف. يأكل من خضراء طيبة الأرض، ويشرب من آبارها ووديانها، ويزرع ويحصد قبل طلوع الشمس، وبعدها. وكان يذهب إلى المدرسة المليئة بالحيوية والأصحاب والرفاق. لم يتشاجروا يوما ولم يتركوا بعضهم للنميمة والكذب والخداع. يتعاونون كما أهلهم في السراء والضراء، يدبكون ويغنون على دلعونا والجوفيه والسامر على أضواء القمر واللكوس المغروس في وسط البيدر. ومع مرحلة التعليم الثانوي ذهب صاحبنا إلى المدينة، ورأى ما رأى، وما يمكن أن يلوث فكره وقلبه. ولكن همسات أمه، ونظرات أبيه كانت أقوى من كل العبث.

أنهى مرحلة التعليم الثانوي، وتعين معلما بع أقل من شهرين. إذ كانت البلاد بحاجة لكل متعلم. وكان يذهب إلى تلك المدينة التي درس فيها مرحلة الثانوي. وكان يلتقي مع أصحابة في مقهى يجمعهم في طرف آخر الشارع. مقهى لا تربط الخيول التي يمتطيها رجالات المقهى رغم وجود المرابط حوله، إذ كانت تلك الخيول تعرف أصحابها، ولا تحتاج إلى من يزجرها. تعرف الطريق، وكانوا يكرمونها، وتكرمهم. يدخل صاحبنا المقهى وكله حيوية، يجلس إلى أصحابه، من كل القرى الطيبة. إذ نشأت بينهم ومعهم معرفة فكرية بهموم الأهل والوطن، والمستقبل. يجلس يقرأ الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية، والشهرية: السياسية منها والثقافية. ويتناول بعد ذلك كتابه الذي اشتراه من الزاوية الأخرى للشارع. ويقرأ ويشرب الشاي بالنعناع. ويرجع بعد ساعات إلى البيت المتواضع منشرح الصدر، لا هم ولا غم، كل شيء في البيت موجود، وكل الناس تقريبا سواسية. يقبل يد والديه، ويلاعب إخوته الصغار، ويسألهم عن واجباتهم المدرسية، ويتابع شؤون دراستهم. كيف لا وهو الكبير، وأمه وأبوه لا يقرآن ولا يكتبان. شأنهم شأن معظم أهل القرية. أميون ولكنهم مثقفون، ويدركون أهمية العلم ومكانته في الإسلام.

وشاءت الظروف أن سافر صاحبنا إلى بلاد الغربة، وودِّع بالدعاء وبالسلامة. وكان في غربته مهموما، لكنه ليس منحرفا، ولا منقطعا عن أهله وأرضه ووطنه. يتابع كل شيء، ويتذكر كل شيء، ويسأل عن كل شيء، فالوطن والأهل وجدانه وقلبه وضميره. ما أصعب الغربة عن الأهل والوطن. ولكنها الحياة تقسو حينا وتتلطف أحيانا أخرى. ويا الله إحفظ أمي وأبي وإخوتي وأخواتي، وأقاربي وجيراني , أهل قريتي، وأصحابي في مقهى الخيول البيضاء.

وعاد صاحبنا بعد سنين طوال تزيد عن العشرين سنه، محملا غانما منتصرا، وبكل الخير، والمحبة استقبله أهله وأقاربه. لم ينسَ أيا منهم، وسال عنهم جميعا. حزن وفرح. تبدلت الحياة، وتغيرت الملابس، وحتى السكاير وأصبح الناس يدخنون الأرقيلة. جلس صاحبنا يتعازمه الأهل والأقرباء شهرا. وهو يدرك أن حالهم بسيطة، وكان يعرف أن قيمهم وعاداتهم لم تتغير. فبقيت الشهامة والكرم، والطيبة والبساطة موفورة.

قال لي صاحبنا، وهو مكفهر: زرت يا صديقي تلك المدينة بالأمس، وعرجت على مقهى الخيول البيضاء. ركبت حصاني الأبيض وذهبت. وشاءت الأقدار أن تمطر السماء قبل وصولي لأول الشارع. فأسرع حصاني الخطوات وكأنه أدرك مقصدي. وعلى بُعد خطوات من المقهى صهل، ورفع رأسه، وشنف أذنيه وكأنه يقول لي لا تقترب من هذا المقهى. أنظر إلى الخيول على بابه وحواليه. إنها خيول سوداء بعضها هرم، وبعضها فتي. وحاولت أن أقنعه بأنني يجب أن أنظر هذا المقهى الذي أعرفه لسنوات عديدة خلت. فهز رأسه ووافق الحصان. ترجلت عن سرجه ودخلت. يا للهول ماذا أرى: دخان يملأ المكان. وصلت إلى طاولة عتيقة مهترئة هناك في تلك الزاوية. جلست على كرسي مثقل بالغبار وناديت على النادل، وأخذ الجلوس ينظرون إلي، فلم يجبني النادل، بل جاء وبدأ يتحدث بيديه. فخلته أخرس. حاولت أن أتعرف على أحد من أصدقائي القدامى، ففشلت. حاولت التحدث لأحد الجالسين ولكنه هز رأسه، وجلق نيعه، وكأنه يقول لي مكانك ليس هنا. مررت على الطاولات فرأيت أنها أنواع وأشكال وألوان. بعضها عالي ومصنوعة من العاج، وبعضها من خشب البلوط البلدي، وبعضها من الحديد، وما طاولتي التي جلست عليها إلا خشب عتيق مغبر، لكنها قوية ومريحة. كان بعض من في المقهى يقرأ كتبا صفراء، مغلفة بإطار أبيض مزركش، ومنهم من يمسك قلما يحسب به، ويحركه من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى. قائمة طويلة من الحساب بلغة لم أفهم منها شيئا. هناك في الوسط شخص له أنف طويل، يرسم ويقصقص ما يرسم ويوزع على آخرين، يجلسون في زوايا مظلمة. صرخت بهم، ولكن لا مجيب، إلا شخص واحد ابتسم باستهزاء. وهكذا يا صديقي خرجت وقدت حصاني الأبيض، ومشيت، ولكن دمعة بدت في طرف عينيه الواسعتين اللامعتين، وكأنه يقول لي هذا زمان الخيول السوداء.

التعليقات

الدكتور نذير سي... (.) الخميس, 12/11/2014 - 11:55

سعادة الاستاذ الدكتور سلامة صاحب الفكر النير ابدعت كما هي عادتك بالابداع .ومقال قمة من الروعة ويشوق كل ناظر له.وفعلا قلت قولا مؤكدا بان هذا الزمان هو زمان الخيول السوداء.وفقكم الله يا صاحب العلم والخلق

الدكتور نذير سي... (.) الخميس, 12/11/2014 - 11:56

سعادة الاستاذ الدكتور سلامة صاحب الفكر النير ابدعت كما هي عادتك بالابداع .ومقال قمة من الروعة ويشوق كل ناظر له.وفعلا قلت قولا مؤكدا بان هذا الزمان هو زمان الخيول السوداء.وفقكم الله يا صاحب العلم والخلق

Basem Alhawamdeh (.) الخميس, 12/11/2014 - 16:17

رايتك بيضاء وستبقى بيضاء استاذي الفاضل وهذا هو الزمن الرديء زمن الخيول السوداء مع اعتذاري من الخيول السوداء فهي سوداء وراثيا اما البعض فقد تحول من البياض الى السواد بارادته وانت انت استاذي الفاضل ما بدلتك الايام ولا اثر فيك الزمان ادامك الله سندا للوطن

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)