TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
الحبّ كضرورة للمعرفة
04/06/2014 - 6:00am

د. بلقيس الكركي
■ بقدر ما هو مستفزّ الاستهلاك بمعناه المادّي، في زمن أصبح فيه الأيديولوجيا السائدة في ظلّ الرأسماليّة، مستفزٌّ بالدرجة نفسها، بل أكثر، استهلاك الأفكار والمصطلحات والعناوين. والمشترك في الحالتين إذعان للموضة الدارجة. فقد أصبح مثلاً كل ما يخص معنى الذات وما حولها، مدرجاً تحت عبارة «الأنا والآخر»، التي تطفح بها المقالات والكتب وعناوين الرسائل الجامعية، مسبوقة دائماً بالكلمة المفضّلة: «جدليّة» أو «جدلية العلاقة». ويبدو أنّ الاستهلاك نفسه قد استفزّ يوماً محمّد عابد الجابري الذي امتعض من استخدام «الأنا والآخر» استخداماً لا يعي حقّاً تطوّر معنى «الأنا» عند مصدرها حسبه، أي الثقافة الغربية منذ ديكارت، وأضيف، بدون بحث في تأصيل المفهومين في الثقافة العربية التي لن ينصفها أبداً اختزال فكرة التنوير بما يسمّى، استهلاكاً، بالـ»لحظة الديكارتيّة». ليس هذا المقال بحثاً حول المفهومين، بل يحاول أن يبدأ من مكان بعيد عن السائد الذي تحدّث كثيرا عن الهوية والصراع وضرورة الاحتكاك مع «الآخر» من أجل فهم «الأنا»، إلى آخر ذلك من أفكار هي في جوهرها أسئلة مهمّة، لولا التواتر والتكرار.
«الآخر»، كما هو معروف، أنواع، فهناك الآخر الثقافي والحضاري والسياسي والحزبي والديني والفكري والأيديولوجي والمذهبي والطبقي والقطري والإقليمي والقومي والعرقي والجندري والجنساني. كلّنا إذن، بشكل أو بآخر، آخر، إلى الحدّ الذي قد يبدو فيه مفهوم «الأنا» أحياناً عبثياً، مضحكاً بل سخيفاً ببعض التفكير. هذا قبل أن ندخل في تعقيدات مفاهيم الذات والهويّة، حيث في كلّ منها أيضاً آخر أو أكثر. وحيث وجد الآخر، يوجد غالبا شكل من أشكال الصراع الذي يفضي دوماً إلى كلام كثير لا ينتهي حول «التعايش». ولا أعرف كيف يمكن للبشرية أن تتعايش طالما أنّ «الأنا»، كما اقتبس الجابري من باسكال، له خاصيّتان: «فمن جهة هو في ذاته غير عادل من حيث إنه يجعل من نفسه مركزاً لكل شيء، وهو من جهة أخرى مضايق للآخرين من حيث إنه يريد استعبادهم؛ ذلك لأن كل «أنا» هو عدو، ويريد أن يكون المسيطر على الكل».
تلك النزعة إلى السيطرة، أو على الأقل إلى الدخول في صراع على شكل من أشكال السلطة، حاضرة بقوة في العلاقة مع «الآخر» بالمعنى العاطفيّ. والكلام حول تكوّن الرغبة أصلاً من صراع ما على السلطة سبق أن ناقشته في المقال السابق على هذا. على أنّ بالإمكان، ربّما، قلب المعادلة، فبينما قد يولد الحبّ من منطق الصراع أو العداء أو الاختلاف الجاذب على الأقلّ، بالإمكان الافتراض أنّ الحبّ، متى ولد، وبغض النظر عن الأسباب، قد يفضي إلى فهم الاختلاف، إلى فهم «الآخر»، والحدّ من منطق الصراع، أو تغيير شكله وسلوكه على الأقل. كتابا آلان باديو ورولان بارت عن الحبّ كلاهما يستخدم «الآخر» بمعنى المحبوب. في الأوّل دعوة واضحة إلى عدم الاستسلام إلى الأيديولوجيا الفردية الحديثة والإذعان إلى اكتشاف «الذات» من خلال «الآخر» المختلف. في الثاني إشارة إلى كون الحبّ منذ الإغريق مسكون بعلاقة الحرب، وقد علّق المترجم الفذ علي نجيب إبراهيم في احد الهوامش، مذكّرا بمعنَيي كلمة «فتنة» في اللغة العربيّة: الحرب الحقيقة أو الأيديولوجية، أو الإغواء الجنسي. الأهمّ هو هامش ورد في الكتاب، يقتبس فيه بارت من مذكّرات أندريه جيد عن حياته الزوجية «والآن تعيش فيك»: «ولما كان الحبّ لازماً دوماً لتفهم ما هو مختلف عنك…»: وهو موضوع هذا المقال.
ربّما ليس هناك من مبرّر حقيقي لتفهم الآخر سوى أن تحبّ الآخر، وإن بدأ الحبّ من عداء كما في حال جميل وبثينة: «وأوّلُ ما قادَ المودّة بيننا/ بوادِ بغيضٍ يا بُثَينَ سِبابُ». بالطبع هناك مبررات آخرى، كمبرّرات المستعمِر والمستعمَر، ومتعة الانحياز والتجمّع والتأدلج (بل والإقصاء)، إلى كل ما يستدعي منطق «اعرف عدوّك». لكن ماذا لو أصبح هذا العدوّ حبيباً؟ هنا ربما المبرر العنيف الوحيد الذي قد يفضي إلى نتائج. ستضطرّ عنده أن تفعل بصدق ثانيَ ما دعا إليه كانط من شروط التنوير: «أن تفكر كما لو كنت مكان الآخر». لأنك تحبه، ستريد فهمه. أما العداء وحده فدائما ما يفضي إلى شكل مختزل من المعرفة. كلّ العشّاق في التاريخ واجهوا صراعا بين آخر وآخر، خارجهما (الطبقة، الدين، الثقافة..) أو داخلهما (في آرائهما وخياراتهما) كما يقول باديو، وأحياناً لم تكن هنا «أنا» تجمعهما سوى الحبّ، وأحياناً تشابه ما. هذه الحالات التي نرى كثيراً منها في المجتمع، لأن مجالها العواطف، يصعب كثيراً تأطيرها في «جدل» واضح حول «الأنا والآخر». الأدب، المهمّش كثيراً في علاقته بالفكر بل والسياسة، هو دائما حيث توجد الإجابات أو الأسئلة الحقيقية، ومن الجيد أن هناك توجها جديدا (غربيا) يحاول كشف الأيديولوجيات التي تحرك العلاقات العاطفية بين البشر، وكيف ترتبط بشكل شبه مباشر بالفكر السائد ومصطلحاته (الاستهلاك، السرعة، المنفعة، الرأسمالية، السلطة، نواة المجتمع). فمثلاً حين تغيب فكرة عبادة القادة والرموز كما في الأنظمة الشمولية، يتزامن معها غياب فكرة عبادة المحبوب ويسود منطق التعارف والانتفاع الجنسي السريع من وحي الديمقراطية والسوق الحرّ، لكن بالدرجة نفسها التي يسود الهوس بالنظام والتشابه في كل الأيديولوجيات (مواقع التعارف التي لا تختلف حسب باديو عن منطق الزواح التقليدي إلا في كون «التشابه» في الأوّل بين فردين اثنين وفي الثاني بين عائلتين). وقد كشف الطاهر لبيب في كتابة الرائع حول الغزل العربي عن تأثير التوحيد في علاقة الحبّ العربية «العذرية»، حيث الحبيبة واحدة، كاملة، والمحبّ ضعيف ضعف العبد أمام ربّه. لم يكن ما أحسّ به قيس «أراني إذا صلّيتُ يمَّمْتَ نحوها..»، منفصلاً عمّا أصبح يسمح به الفكر العربيّ بعد الإسلام. ربّما الأيديولوجيا حقّا حاضرة في كل شيء. لكن ما «الهويّة» التي ينضوي تحتها العاشقان وما شكل الآخر؟ خارج أيديولوجيا «العائلة» وكل ما كتبه إنجلز حول دورها في المجتمع والإنتاج ومصالح السلطة، لا يبقى سوى الأدب ليشرحها: «أجارتنا إنّا غريبان ها هنا/ وكل غريبٍ للغريبِ نسيبُ» (امرؤ القيس). هي حالة شعرية بامتياز يصعب وضعها في سياق آخر. غريبان عن الآخرين وعن بعضهما، ومرة أخرى: عاطفة تنتج عن شتم وسباب، فتقود إلى إحساس بالغربة عن الآخر الشاتم من جهة، وعن العالم «الآخر» حول هذين «الأنا والآخر» من جهة أخرى، والهوية الجامعة بينهما هي ذلك «الحبّ» وتلك «الغربة» بكل ما فيهما من غموض. ماذا تمنّى كثيّر لعزّة في الأبيات التي أضحكت النقاد حتّى شبعوا؟
(ألاَ ليتَنا يا عَزَّ كُنّا لذِي غِنَى/ بَعِيرَيْنِ نَرْعَى في الخَلاء ونَعْزُبُ … كِلاَنَا به عَرٌّ فَمنْ يَرَنا يَقُلْ/ عَلى حُسْنِها جَرْباءُ تُعْدِي وأَجْرَبُ … إذا ما وَرَدْنا مَنْهَلاً صاح أهلُه/ علينا فما نَنْفَكُّ نُرْمَى ونُضْرَبُ)
قيل عندها لكثيّر من العالم «الآخر»: «تمنيتَ لها ولنفسك الرق والجرب والرمي والطرد والمسخ فأي مكروه لم تمنّ لها ولنفسك. لقد أصابها منك قول القائل: معاداة عاقل خير من مودة أحمق».
أصرُّ على أنّ تعقيدات الأمر فيما يخص «المودّة» ستدفع أكثر من أيّ مبرّر سواها إلى الفهم. لقد كُشف مؤخرا عن هويّة «ريتا» اليهودية في شعر محمود درويش، التي ربما كانت دافعاً قويّا لتتغير طريقة تفكيره في الآخر. وكذلك علاقة مصطفى سعيد بالغة التعقيد بجين موريس، الذي قتل المستعمر الذي تمثّله في جسدها ولم ينفِ كم أحبّها. ماذا كان بين محمّد وخديجة، رغم الاختلاف الطبقي والعمري؟ ماذا كان بين زينب بنت محمّد بنت النبيّ وبين أبي العاص بن الربيع، ابن خالتها وزوجها المشرك، الذي حارب أباها في غزوة بدر؟ لا أفهم كيف لا ننتبه في كل حواراتنا حول الاختلاف في زمن القتل والتكفير إلى ما جاء في القصة المذهلة، بغض النظر عن دقة تفاصيلها. زينب لا تكذّب أباها، وحبيبها لا يريد أن يخذل قومه إرضاء لزوجته. يؤسر في بدر، فتفديه بعقد خديجة رغم كفره. يفرَّق بينهما، ويعود ويأتيها هاربا لا مسلما ليختبئ عندها، ثم يسلم، ربما لأجلها. الآخر لا يمكن أن يعنينا كثيرا إلا عدوا أو حبيباً، وفي الحالة الثانية، من وجهة نظري، يصبح الفهم ضرورة، ويكون أعمق وأدقّ. لقد ركزت الأديان على «الرحمة» في علاقات المحبّة: «وجعل بينكم مودّة ورحمة» (القرآن)؛ «الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ (…) وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.» (الإنجيل). التركيز على الرحمة والصبر والاحتمال يفترض بالضرورة وجود صراع ما مسبق، أو اختلاف أو فهم قاصر على الأقل، يخفف وطأته الحبّ وما يستدعيه من حاجة للفهم والاحتمال. الحبّ، كما يقول نيتشه، هو دائماً «على الرغم من…».
ربما لا بدّ من كتاب يبدأ من هنا لطرح تصور جديد عن مسألة «الآخر». وبدل الفهم المفروض قسرا ليكون تعايشٌ، نبدأ من عند من أحبّوا فرغبوا بأكثر من محض التعايش البارد فقادهم السؤال إلى حاجة للفهم والمعرفة. ربما لا بد من نبش التاريخ والواقع عن قصص حقيقية أو متخيلة لاختبار الفكرة: كيف يسهم الحب في فهم ما لا يمكن فهمه حقّاً بدونه؟ لا شك في أن الواقع يعج بالتجارب، ولأنها شخصية فإنها لا تجد طريقاً إلى المتداول من المعلومات، خاصّة في المجتمعات المحافظة. اقتراحي البسيط: على المحبّين المختلفين، بمعاييرهما الشخصيّة أو معايير المجتمع، أن يرويا قصتهما بكل آلامها وتعقيداتها لتبدأ طريقة جديدة في التفكير، مثيرة ومفيدة، مهما كانت نهاية القصّة. المهمّ التركيز على ما يقوده الحبّ من بعض فهم، وكيف يغيّر اللغة، وحدّة الموقف، والسلوك.
الجامعة، حيث أعمل، مليئة بالقصص التي أعرفها من نصوص الطلاب والطالبات أو منهم شخصياً. مما أذكره كيف دافع طالب لادينيّ عن صديقته التي ترتدي حجاباً وجلباباً وسط سخرية زملائهما في كلية تصف نفسها بالـ»متحررة» مستغربين من التناقض الظاهر، وقد دافعت هي عنه بالنبل ذاته في موقف آخر. ربما لو كانت سواها لسخر، ولو كان سواه لسخرت، لكن للعواطف منطقها في تغيير العلاقة مع كل آخر، وفي تغيير مفهومه كذلك. طلبة كثيرون لم يلتقوا في حياتهم بشخص مسيحي أو شيعي أو ملحد مجسداً من لحم ودم قبل دخول الجامعة، ولم يكن لبعضهم أن يفهم أكثر لولا نتائج الصداقة والألفة. في المجتمع قصص لا تنتهي والكل يكتب عن كل شيء ما عداها رغم أنّه لا يثرثر إلا عنها. أمّا أنا فقد كتبت فصلاً في «إرادة الكتابة» عن الحبّ والصراع بين بلقيس وسليمان، ملكي سبأ وأورشليم المختلفين، واستوحيت الكثير من الواقع والخيال. الأمر نفسه الذي ينطبق على العلاقات العاطفية والصداقة ينطبق على العلاقات العائلية: كلنا لم يكن ليتقـــبل معـــظم أفراد العائلة لولا الحبّ المسبق، ولم نكن لنفهمهم ونبرر لهم الكثير الكثير، ونقدّم لهم ما استطعنا، مهما اختلفوا واختلفنا. الأزمة، مرة أخرى، هي في غياب الحديث عن التجارب الشخصية لأسباب يعرفها المجتمع المحافظ وما يزال يصمت حيث ينبغي، لمصلحته، أن يتكلّم. ربّما أصبحنا في حاجة إلى نسخة عربية حديثة مطوّرة من «طوق الحمامة» أو «روضة المحبين»، لا إلى كتاب آخر مكرّر حول «الأنا والآخر».

٭ كاتبة أردنية

د. بلقيس الكركي

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)