TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
«وبعدين معاكِ يا هناه؟»: الأدب والأمان في عرس الطرشان
17/06/2014 - 10:00am

طلبة نيوز
د. بلقيس الكركي
■ يقولون الثقافة سلاح، ولا أختلف، لكني لا أحبّ التعبير هذا ببساطة، لذا سأبدأ من مكان آخر.
«وبعدين معاكي يا هناه؟!»
كانت تلك ردّة فعل الطيّب صــــالح في حواره مع أمريكيّة التقاها في باريس، استطاعت أن «تخمّن» أن السودان في افريقيا، لكنّها تابعت بأن ســألت: «أنتم فرانكوفونيّون، لغتكم الفرنسيّة، أليـــس كــــذلك؟» فردّ بينه وبينه: «وبعدين معاكي يا هناه؟! صحيـــح عندنا كــــم واحد قرأوا المتون في (مُنبيلييه) و(بوردو) و(السوربون). إنّما انظري إلى هذا الجالس حِداك كيف يُعاظـــل الفرنسيّة، كأنّه بعير مثقَل في بيداء الرمال. هل هذا صنيع فرانكوفونيّين؟».
قال لها إنّ لغتهم الأمّ هي العربية، فـ»حزرت» أنّهم عرب، ولم يكلف الطيّب صالح نفسه بشرح تفاصيل التعدّد «في بلاد السودان المتباعـــــدة الأكناف»، إذ «لو كانت السيدة تريد حقّاً أن تفهم، لرويتُ لها القصّة بحذافيرها.
إنما هي وقومها مثل الأطرش في زفّة العرس. والعرس عرسهم، والزمان زمانهم». بلبلتها كلمة «عرب»، ويختم الطيّب فصله ببيت أبي الطيّب وآخره: «رُبّ عيشٍ ألذُّ منه الحِمامُ».
العرس عرسهم، والزمان زمانهم. ترنّ في بالي منذ قرأتها. كان البير كامو، المنشق عن اليسار الفرنسي المنادي باستقلال الجزائر، يعارض الاستقلال محذّرا من «إمبريالية عربية جديدة تقودها مصر». قرأت ذاك مؤخراً وضحكت، ألماً بالضرورة. ضحكت من هول المسافة بين ما كان يخشاه وبين ما وقع حقاً، لاحقاً، الآن. اطمئن في قبرك يا البير. لقد استقلّت الجزائر بعد موتك بقليل، لكنّ العرس ما يزال عرسكم، والزمان زمانكم. كدنا بالمناسبة أن نبدأ عرساً جماعيّاً رائعاً، كـ»عرس الزين» (رواية للطيب صالح)؛ عرس «الزين» القبيح على «نعمة» الجميلة، بعد الزفّة التونسية المبادرة. لكن الصالات كما يبدو محجوزة لمدة طويلة لأعراس نفطية وإمبرياليات غير عربية. العرس ما يزال عرسهم، ونحن نصرّ على إسماع الطرشان وأحياناً ننسى العرسان. كيف؟ هنا مثال: لم تكن قد مضت أسابيع على ثورة يناير المصرية. كنت في نيويورك، وإعلان في جامعة كولومبيا على المدخل يراه جميع الداخلين والخارجين. كان الإعلان عن محاضرة مرتقبة لأكاديمي عربي معروف حول دور الأحداث المصرية في تغيير صورة العرب عند الغرب. غلبني النزق ولم أحضر. محض أسابيع والمهمّ صورتنا «وبعدين معاكم»، هل يريدون أن يفهموا أصلاً أم إنّهم كرفيقة الطيّب صالح الطرشاء؟ تذكرت «بنت عبدالله» في رواية عرس الزين، المعتادة على الزغاريد في أعراس الآخرين. هذه المرّة كان العرس عرسها، لكنّها نسيت، وزغردت. عروس تزغرد في عرسها، وترقص للمدعوّين حتى الصباح. هكذا درعا مثلاً. كم كانت جميلة حين زُفّت، قبل أن يعود العرس عرس أمراء الحرب الباردة وأمراء صحراء لا تشبه أبداً صحراء السودان الجميلة. جميلة لها من عرسها شظايا؛ «معونات» تصل بعض اللاجئين أو لا تصلهم. رحم الله الطيب، وأبا الطيّب، الذي عرف ألمَ ترجّي الفضل والبقايا:
«أبا المسكِ،
هل في الكأس فضلٌ
أناله؟
فإنّي أغنّي منذ حينٍ
وتشرَبُ»…
لم ينل شيئاً، ولا نحن، فالعرس عرسهم، والزمان زمانهم.
ماذا كنت لأفعل بدون الأدب؟ ليست الثقافة سلاحاً بمعنى الدفاع المباشر ضدّ الآخرين، بل ضدّ التباسات النفس الكثيرة. مساكين من لم يقرؤوا «موسم الهجرة»، كيف يسافرون من غير مصطفى سعيد؟ من غير روح الطيب صالح: «وبعدين معاكي يا هناه»؟
في مكان آخر في الشمال، غير نيويورك، في جامعة عريقة (و»عريقة» لفظة يستخدمها العرب لما هو أجنبي غربي)، جامعة يفترض أنّ من فيها على درجة عالية من الثقافة ولا يشبهون رفيقة الطيب الصالح البلهاء، سُئلت ما إذا كان عليّ ارتداء الحجاب عندما أعود إلى بلدي. أجبت وروح الجاحظ والطيب صالح وساخرين آخرين تغمر مساماتي: «بالطبع، أرتديه في الطائرة، فزوجي ينتظرني في المطار مع عصاته ونسائه الثلاث الأخريات». قصص كثيرة مشابهة يعرفها كلّ مسافر. والمسافرون نوعان: نوع اختصر على نفسه طرقاً وأزمات بأن قرأ فأمِن ألم تفاهات كثيرة، ومنهم من يعتقد أن حضور محاضرة عن صورة قومه أمام الأقوياء إنجاز معرفيّ مهمّ. أمّا في حال مسافر تشرّبَ «موسم الهجرة» صغيراً، لا أخفي أنّي تقمّصت كثيراً مصطفى سعيد وتلاعبت مثله بما يظنّ الآخر أنّه يعرفه أو يجهله لا لشيء إلاّ لكي لا يسود عندي منطق الدفاع أو لسانُ حال يقول باستمرار: «وبعدين معاكم»؟
«لماذا نحاول هذا السفر» على حدّ تعبير درويش؟ العرس عرسهم، لكنّ العلم أيضاً، للأسف، علمهم، بما في ذلك ما كان علمنا. منهم من يعرف حقاً عن الجاحظ ما لا يخطر على بال كثير من الأكاديميّين العرب. إذن «وبعدين معانا»؟
نعم، لا بدّ أن يسمع الطرشان، لكن تلك ليست لا الغاية ولا الوسيلة. وغالباً هم ليسوا صمّا، خاصة من هم في السلطة، وإن كان بعضهم بالمستوى الثقافي غير الرفيع لرفيقة الطيّب. هذا تناولته رواية صغيرة جميلة للكاتب الإنكليزي الساخر آلان بينيت:
The Uncommon Reader، وuncommon تعني ليست مألوفة، وليست من عامّة الشعب، فالبطلة القارئة هي الملكة إليزابيث، وتدور الرواية حول زيارتها لإحدى المكتبات ودخولها عوالم الثقافة والأدب. أذكر المشهد حين اكتشفت تاريخ بلاد فارس وأيقظت زوجها متحمّسة ليلاً لتخبره ما أصبحت تعرف عن تاريخ إيران ولتقنعه بأنّ سياسات بريطانيا تجاه «المثلث الشيعي» مجحفة وأنّها وأنّها.. في الفترة نفسها التي قرأت فيها الرواية كانت الضجّة قد ثارت حول فيلم «القارئة»، ولم يحتج مني الأمر تفكيراً لكي تشوّش على متعة القصّة حقيقةُ الخطاب فيها. ألمانيّة نازيّة تعترف بما فعلت أمام الملأ في المحكمة، ويعود حبيبها بعد أعوام ليكرر اعتذاره المذلّ لليهودية الضحيّة في مركز أمريكا. لماذا لم يعتذر لنا أحد بعد؟ «وبعدين معاهم؟» كان يتيمة تلك الثواني في أحد وثائقيات بي بي سي عن تاريخ فلسطين، استضافت فيها سريعاً رجل مخابرات إسرائيلي كان يوماً عنصراً في الهاجانا، قال إنّ أشياء كثيرة مما فعلوها «نندم عليها إلى اليوم» و»في الحرب تحدث أخطاء» و»لم تكن هناك أوامر واضحة من بن غوريون حول كيفية التعامل مع مدنيّين في القرى المحتلّة»، و»مدينة الرملة كانت عربيّة بالكامل». في النهاية أقرّ بأنّ دولة إسرائيل لم تكن ممكنة بوجود مدن عربية في مراكزها. قد لا يهمّ كثيرا ما قال لأنّه لا يعني شيئاً ولا يغيّر شيئاً، لكنّ شيئاً في عينيه كان غريباً، شيئا يشبه الصدق، ولم أعرف إن كان يمكن تأويله على أنّه ذنب حقيقي أو مفتعل. مثل الطيب صالح، أعانني المتنبّي عليّ: «ومن صحِب الدنيا طويلاً تقّلبَت/ على عينه حتّى يرى صِدقها كَذِبا». ربّما لأنّ بي من عُقَد مصطفى سعيد أكثر من سلام راوي الرواية الذي كان ينظر بإيجابية إلى طيبة الناس في جوهرهم، لم أشأ أن أصدّق. ومع ذلك استوقفتني رغبة في فكّ الالتباس: هل للحقيقة في النهاية وجه واحد مصيره أن ينجلي؟ أم ستتغلّب حتّى نهاية العالم رغبة ساكنيه في السلطة فتقوّض كلّ معرفة تهدّدها؟ هل الأزمة أزمة جهل ومعرفة أم هو صراع لن ينتهي برضا الأطراف كلّها أبداً؟ الكلّ يريد عرساً وزماناً، لكنّ البعض يصرّ على أن يكون أكثر ترفاً من كلّ الآخرين، ولا مجال كما يبدو لأن يُزفّ الجميع كما ينبئ التاريخ البشري بكل تجاربه الأيديولوجية إلى الآن.
لم يكن موضوع محاضراتي الأخيرة هذا الفصل في الكتابة الإبداعية قريباً من السياسة أبداً، رغم أنّ النتائج أوحت لي بالكثير عن نزعة شريحة كبيرة من الشباب لتقويض الأيديولوجيا التي يتحركون داخلها في العالم لصالح شيء آخر، معالمه تكاد تكون واضحة. كنت قد طلبت منهم تخيّل عالم يوتوبيّ بمفاهيمهم. عشرات النصوص أجمعت، رغم قصور الخيال، على عالم يتقلص فيه التواصل سيئ الفهم بين البشر، على طبيعة ما هادئة، على عالم ريفيّ أجواؤه مستقاة من الرسوم المتحركة، على غياب كامل للتكنولوجيا (رغم أنّ بعضهم كتب نصّه على هاتفه الذكيّ الجديد)، على حضور لبئر الماء والحساء والحقول وآلات الموسيقى الخشبية والحبّ بمعناه الرومانسي البسيط. قلّة فقط التي ركّزت على طموحات مادّية أو ســـلطويّة؛ فرديّة أو جمعــــية، وهي تلك الفئة التي انتبهت إلى أنّ عالماً يسوده الودّ والعدالة والثقافة والأخلاق بين البشر عالم لا يطــــاق، وأن لا يوتوبيا بلا صراع ضروريّ للحركة والرغبة في الحياة. لكن ماذا عن الحرب والقتل والدم؟ قالوا لا بدّ من صراع، لكن بالحدّ الأدنى، ولم يستطع أحد، بمن فيهم أنا، تحديد هذا الحدّ الأدنى.
«وبعدين معانا؟» يبدو أنّنا كبشر لا نكاد نعرف ما نريد. قصّة الطيّب صالح مع الأمريكية ممتعة، وهي متعة لم تكن ممكنة لولا الجهل والصراع. أخشى أن نكون بحاجة إلى مستعمرين لنلعنهم، ومستبدين لنشتمهم، وأغبياء لنسخر منهم، وآخرين لننسج هويّاتنا الهشّة من خيوط تشابهنا واختلافنا معهم. أخشى أنّنا لم نعد نستطيع العيش من غير «شماعات» نعلّق عليها فشلنا الفكريّ والسياسيّ في ابتكار غايات وطرق وقيم جديدة تمكنّنا من التحرك في العالم بألم أقلّ. أخشى أن تكون كاف المخاطب في عبارة الطيّب صالح «وبعدين معاكي يا هناه» لا تعود إلاّ على الذات، وأنّها الوحيدة الطرشاء التي لا تسمع تَناديَ هواجسِها. لذلك ربّما ما زلت مصرّة على الفكرة من وراء العبارة المستهلكة: «الثقافة سلاح»، خاصة لأنّ العرس ليس عرسنا، ولا الزمان زماننا. هناك شيء من الأمان في إدراك الضياع، للمفارقة. شيء من الجمال في فهم الألم بل والعبث، وشيء من الحقيقة في سؤال النفس: «وبعدين معاكي يا هناه».

د. بلقيس الكركي

التعليقات

مدرس جامعي صخري (.) الثلاثاء, 06/24/2014 - 09:10

قرأت المقال وحاولت جاهدا ان احلل الافكار فيه : اقتباس من روايات غربية وعربية للتعبير عن فكرة غير واضحة وطرح قضايا سياسية واجتماعية وثقافية غير محددة بتاتا ماذا تريدين من هذا المقال , هل هذا كتابة ابداعية ؟ هل كتابة نقدية لواقعنا العربي البائس المتخلف ؟ وما علاقة السفر بالموضوع ؟ والترحال ؟ كان العربي يسافر على فرسه في رحلة التطريش ويبحث عن الكلأ والماء والعشب ؟ أنت ذهبت للغرب في رحلة علمية أو سفر ؟ ترى ماذا نقلت لهم عنا وانت تقولين انهم يعرفون عنا أكثر منا ؟ كنت لأتمنى منك ان تتناولين الكتابات الروائية والابداعية العربية وحتى الاجنبية التي تدعو الى حب الوطن والانتماء اليه وكيف نصمد أمام الغرب بوعي علمي ومعرفي وبدون انكسار او انهزام ونعلن الفرح والقصيد والهجيني فلدينا مواوويل كركية من قريتك الكرك ولدينا قصيد وسامر ودحية كثير في قبيلتي بني صخر ولدينا الكثير من الشعر والنثر والقصة والرواية والمقالة والخاطرة / ولدينا الكثير من الرموز التي نعتز بها ومنهم المفكر والشاعر والمثقف والدك خالد الكركي ، ووو ولدينا رموز وطنية وشهداء وو وهذا ما ندرسه طلبتنا في مساق التربية الوطنية في الجامعة ، الكتابة الابداعية التي تدرسينها في الجامعة : هي وجع وطني وهي عطاء فكري وهي تدريب على القراءة الواعية النقدية التفكيكية للنص ودلالاته اللغوية والسياسية والفكرية وربطه بالواقع الحياتي الذي يبدأ بالرغيف الكريم وينتهي بالحرية هكذا تكون القراءة الابداعية بتحليل نصوص الادباء بالكرك والطفيلة ومعان والشوبك واربد والمفرق وعجلون والموقر والجيزة حيث عن رفيفان المجالي وعضوب الزبن وحديثه الخريشا وكليب الشريده وكايد المفلح العبيدات ، وعن جهود خليف الطروانه بتحويل الجامعة الاردنية الى بحثية ابداعية تعطيكي الحصانة الفكرية للكتابة الابداعية والانطلاق نحو البحث العلمي وووو

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)