TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
مستقبل التعليم الجامعي: بين مكانته الراسخة وتحولاته القادمة
18/05/2025 - 4:30pm

طلبة نيوز - كتب د. زياد أبو الرُّب - الجامعة الألمانية الأردنية

لا شيء يبقى على حاله في عالم يعيد تعريف قواعده كل يوم. هذا ما تواجهه الجامعات اليوم، وهي تراقب من بعيد وقريب كيف يتغير معنى التعلم ذاته، وتتغير معه طبيعة العلاقة بين الطالب والمعرفة وسوق العمل. لم تعد الجامعات وحدها تحتكر الإجابة عن سؤال "من أين نبدأ؟"، ولا الشهادة وحدها تمثل نهاية الرحلة وبداية الحياة المهنية.

صحيح أن الجامعات لا تزال تؤدي أدوارًا عميقة لا يمكن لبدائل التعليم الرقمي أو الدورات السريعة محاكاتها بالكامل، إذ يظل التعليم الجامعي، رغم الانتقادات، فضاءً لبناء التفكير النقدي وصقل الشخصية، وليس مجرد اختبار للذاكرة أو سباق مع الزمن. لكن، في الوقت نفسه، لم يعد ممكنًا تجاهل أن المهارات التطبيقية باتت تتقدم بسرعة لتحتل مكانًا محوريًا في معايير التوظيف والنجاح. فالأسواق اليوم تبحث عن من يستطيع أن يفعل، لا فقط من يعرف.

من هنا، بات سؤال الفجوة بين الخريجين وسوق العمل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. لماذا تشكو القطاعات الاقتصادية من نقص الكفاءات رغم تزايد عدد الخريجين؟ لا يتعلق الأمر بضعف البرامج الجامعية في جوهرها، بل بفجوة طبيعية بين إيقاع التغيير في الصناعة وسرعة استجابة التعليم. فالابتكار لا ينتظر، والجامعات بطبيعتها مؤسسات تميل إلى التريث وإعادة التفكير قبل كل تعديل جوهري.

لقد بدأ هذا الواقع يفرض حلولًا مرنة تواكب الحاجة. ليس الحديث هنا عن إلغاء الشهادات أو تجاوزها، بل عن استكمالها بمسارات تعليمية أكثر ديناميكية، مثل الشهادات المصغرة (Micro-Credentials) والاعتراف في التعليم المسبق (Recognition of Prior Learning) التي تمنح صاحبها إثباتًا عمليًا سريعًا لكفاءته في مجال محدد. إن دمج هذه المسارات ضمن النظام الجامعي التقليدي لم يعد ترفًا، بل ضرورة لضمان بقاء الجامعات ضمن خارطة التأثير لا على هامشها.

وفي خضم هذا التغير، جاء الذكاء الاصطناعي ليقلب الطاولة أكثر. فالتعليم الذي كان يُبنى ظاهريًا على افتراض أن جميع الطلاب يتحركون بنفس السرعة نحو الأهداف ذاتها، أصبح اليوم قادرًا على أن يكون مصممًا حسب الاحتياجات الفردية. تتيح أدوات الذكاء الاصطناعي للطالب أن يتلقى الدعم الذي يحتاجه في الوقت المناسب، وتفتح للجامعات بابًا لتجديد طرقها في التقييم والتعليم. لكن هذه القفزة تحمل في طياتها تحديات أخلاقية وأكاديمية لا تقل أهمية عن فرصها، وتدعو إلى يقظة مؤسساتية تحرص على ترسيخ معايير النزاهة والتمييز بين التعلم الحقيقي والاستهلاك السريع للمحتوى.

رغم هذا كله، فإن التعليم الرقمي، بكل ما حققه من انتشار متسارع منذ مطلع الألفية، لا يزال حتى الآن رافدًا لا بديلًا كاملًا. صحيح أن حصته السوقية تتزايد، وأن الطلب عليه يزداد مع إيقاع الحياة المتسارع، لكن تجربة الجامعة التقليدية، بما توفره من تفاعل إنساني وعمق أكاديمي وتواصل مجتمعي، تبقى قادرة على الصمود إذا ما أعادت تعريف دورها وأدواتها. فلا منافسة مستدامة بين التعليم الرقمي والجامعات إلا إذا بقيت هذه الأخيرة في موقع متجدد، قادرة على أن تقدم ما يتجاوز المعلومة إلى بناء الإنسان.

ما يلوح في الأفق ليس أفول دور الجامعة، بل تحوّله من الاعتماد على نموذج واحد إلى أدوار متنوعة تجمع بين التعليم التقليدي والرقمي، وبين الشهادات الطويلة والمصغرة، وبين المعرفة النظرية والمهارات العملية. جامعة المستقبل ستكون مرنة، متصلة بالصناعة، منفتحة على التعليم مدى الحياة، قادرة على تقديم الخبرة، وإلهام الابتكار، وتعزيز القيم، لا مجرد توزيع الشهادات.

التحدي الأكبر اليوم ليس في مواكبة التحولات، بل في قيادتها. والجامعات التي تدرك أن مستقبلها يبدأ من قدرتها على أن تكون جسراً لا جداراً، هي وحدها من سيبقى شاهداً ومؤثراً في عصر يكتب فصوله بسرعة لم نعهدها من قبل.

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)