TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
ماسك الدين من ذيله ! (إشكالية النظم ذات المبادئ المثالية)‏
28/05/2019 - 11:00pm

د.علي المستريحي

كل النظم القائمة على فلسفة ذات مبادئ مثالية إما أن يكون مصيرها الزوال أو أن تنتهي الى أن تكون ‏صورة خيالية كالحلم في أذهان المؤمنين بها فقط .. بل وغالبا ما تتحول الى صور ديكورية شكلية يتم ‏تفريغها من مضمونها ومحتواها وعمقها، فينشأ صراع محتدم وجدل بيزنطي لا ينتهي بين نظرية المبدأ ‏وممارسة تطبيقه امبريقية (‏empirical‏)، سرعان ما ينتقل لعامة الناس فيشكل حالة من الضياع والضبابية ‏وينتهي غالبا الى العنف والكراهية. ‏

الإشكالية الأساسية هي أن من يؤسسون لمبادئ أو نظرية يؤسسونها لتمتد لمستقبل غير منظور على اعتبار ‏أنها أبدية غير قابلة للتغيير، وبأنها تصلح لكل زمان ومكان! لكن ينسون أو يتناسون أن التغيير سمة الحياة ‏واكسيرها، وأن الحياة قامت على الأرض والتغيير جين جوهري من جينات تكوينها. ذلك ببساطة أن جانبي ‏التغيير الأساسيين، الزمان والمكان، هما بالأصل متغيران وليسا ثابتين.‏

لذلك، فقضية المبادئ اليوم الأساسية ليست بالميثودولوجيا (‏methodology‏)، وهي أدوات ومناهج البحث ‏المستخدمة بالوصول الى "الحقيقة"، وهي أدوات لم تتغير كثيرا بمرور الوقت، بل تطورت وأصبحت أكثر ‏تنوعا ودقة مستفيدة من الإمكانيات التكنولوجية الحديثة. وليست المشكلة أيضا بأونتولوجيا (‏ontology‏) ‏المبادئ نفسها ومادتها، فليس من الصعوبة بمكان اختراع المبدأ، بل المشكلة الحقيقية في ابستومولوجي ‏‏(‏epistemology‏) العلاقة بين الفاعل والمفعول (‏subject-object relation‏)، بين المؤمن بالمبدأ ‏‏(مخترعه وكل من آمن به) وإمكانيات وفرص صمود ذلك المبدأ أمام رياح التغيير العاتية بمرور الزمن .. ‏هي المشكلة بين مخترع المبدأ (أو النظرية) والمؤمنين به/بها من جانب، وقدرتهم جميعا على اخضاعه/ها ‏لديمومة التطبيق والالتزام المستمر به/بها بمرور الوقت أو محاولة محاكاته أو اسقاطه على جغرافية جديدة ‏‏(وبالتالي، تجاوز عاملي الزمان والمكان).‏

قلة من المبادئ امتازت بديمومتها وصمدت أمام التغيير (الزمان والمكان) وحافظت على جوهرها عند ‏تطبيقها، وعلى الالتزام بتطبيقها بمرور الزمان وباختلاف المكان، بل لا أعرف مبدأ تجاوز العاملين عند ‏تطبيقه ونجا بسلام! وفي كثير من الأحوال، خضعت غالبية المبادئ عند محاولة تطبيقها بمرور الزمن ‏وتبدل المكان للتحويل أو التحوير مع الوقت وفقدت مضمونها وفرّغت من محتواها وبدأت تركز على ‏الشكليات وتجاهلت المضمون ! الدول/المجتمعات التي اتبعت هذا النهج امتازت بالفشل والهشاشة !‏

ولكن ما الحل؟

نرى أن الحل يكمن في أن ندرك (ونقبل) من حيث المبدأ، عند تأسيس نظرية أو مجموعة مبادئ أن تكون ‏قابلة للتكيف مع التغيير بمرور الزمن (أي أن يكون لها القدرة على تجاوز عامل الزمن) وأن تكون عابرة ‏للمكان وللجغرافيا بروحها وبمادتها الأساسية لا بحذافيرها وبشكلها الصوري الخارجي (أي أن يكون لها ‏القدرة على تجاوز عامل المكان) وأن تبتعد عن تمسكها بالشكليات. التجربة أظهرت لنا أن هناك نماذج من ‏الدول نجحت بالفعل بالتمسك بروح المبدأ وسكبته بقالب عصري متكيف قابل للتطبيق وللحياة. التجربة ‏الماليزية والتركية مثالان شاهدان للعيان فيما يتعلق بمسائل الدين. يقول مهاتير محمد: "عندما أردنا الصلاة ‏توجهنا صوب مكة، وعندما أردنا بناء البلاد توجهنا صوب اليابان" ! هذه الدول نأت بنفسها عن أن "تمسك ‏الدين من ذيله"، فحافظت على الجوهر وطرحت جانبا الشكليات الصورية للدين، وذلك في الحقيقة ما ندعو ‏اليه !! ‏

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)