د.علي المستريحي
كل النظم القائمة على فلسفة ذات مبادئ مثالية إما أن يكون مصيرها الزوال أو أن تنتهي الى أن تكون صورة خيالية كالحلم في أذهان المؤمنين بها فقط .. بل وغالبا ما تتحول الى صور ديكورية شكلية يتم تفريغها من مضمونها ومحتواها وعمقها، فينشأ صراع محتدم وجدل بيزنطي لا ينتهي بين نظرية المبدأ وممارسة تطبيقه امبريقية (empirical)، سرعان ما ينتقل لعامة الناس فيشكل حالة من الضياع والضبابية وينتهي غالبا الى العنف والكراهية.
الإشكالية الأساسية هي أن من يؤسسون لمبادئ أو نظرية يؤسسونها لتمتد لمستقبل غير منظور على اعتبار أنها أبدية غير قابلة للتغيير، وبأنها تصلح لكل زمان ومكان! لكن ينسون أو يتناسون أن التغيير سمة الحياة واكسيرها، وأن الحياة قامت على الأرض والتغيير جين جوهري من جينات تكوينها. ذلك ببساطة أن جانبي التغيير الأساسيين، الزمان والمكان، هما بالأصل متغيران وليسا ثابتين.
لذلك، فقضية المبادئ اليوم الأساسية ليست بالميثودولوجيا (methodology)، وهي أدوات ومناهج البحث المستخدمة بالوصول الى "الحقيقة"، وهي أدوات لم تتغير كثيرا بمرور الوقت، بل تطورت وأصبحت أكثر تنوعا ودقة مستفيدة من الإمكانيات التكنولوجية الحديثة. وليست المشكلة أيضا بأونتولوجيا (ontology) المبادئ نفسها ومادتها، فليس من الصعوبة بمكان اختراع المبدأ، بل المشكلة الحقيقية في ابستومولوجي (epistemology) العلاقة بين الفاعل والمفعول (subject-object relation)، بين المؤمن بالمبدأ (مخترعه وكل من آمن به) وإمكانيات وفرص صمود ذلك المبدأ أمام رياح التغيير العاتية بمرور الزمن .. هي المشكلة بين مخترع المبدأ (أو النظرية) والمؤمنين به/بها من جانب، وقدرتهم جميعا على اخضاعه/ها لديمومة التطبيق والالتزام المستمر به/بها بمرور الوقت أو محاولة محاكاته أو اسقاطه على جغرافية جديدة (وبالتالي، تجاوز عاملي الزمان والمكان).
قلة من المبادئ امتازت بديمومتها وصمدت أمام التغيير (الزمان والمكان) وحافظت على جوهرها عند تطبيقها، وعلى الالتزام بتطبيقها بمرور الزمان وباختلاف المكان، بل لا أعرف مبدأ تجاوز العاملين عند تطبيقه ونجا بسلام! وفي كثير من الأحوال، خضعت غالبية المبادئ عند محاولة تطبيقها بمرور الزمن وتبدل المكان للتحويل أو التحوير مع الوقت وفقدت مضمونها وفرّغت من محتواها وبدأت تركز على الشكليات وتجاهلت المضمون ! الدول/المجتمعات التي اتبعت هذا النهج امتازت بالفشل والهشاشة !
ولكن ما الحل؟
نرى أن الحل يكمن في أن ندرك (ونقبل) من حيث المبدأ، عند تأسيس نظرية أو مجموعة مبادئ أن تكون قابلة للتكيف مع التغيير بمرور الزمن (أي أن يكون لها القدرة على تجاوز عامل الزمن) وأن تكون عابرة للمكان وللجغرافيا بروحها وبمادتها الأساسية لا بحذافيرها وبشكلها الصوري الخارجي (أي أن يكون لها القدرة على تجاوز عامل المكان) وأن تبتعد عن تمسكها بالشكليات. التجربة أظهرت لنا أن هناك نماذج من الدول نجحت بالفعل بالتمسك بروح المبدأ وسكبته بقالب عصري متكيف قابل للتطبيق وللحياة. التجربة الماليزية والتركية مثالان شاهدان للعيان فيما يتعلق بمسائل الدين. يقول مهاتير محمد: "عندما أردنا الصلاة توجهنا صوب مكة، وعندما أردنا بناء البلاد توجهنا صوب اليابان" ! هذه الدول نأت بنفسها عن أن "تمسك الدين من ذيله"، فحافظت على الجوهر وطرحت جانبا الشكليات الصورية للدين، وذلك في الحقيقة ما ندعو اليه !!
اضف تعليقك