TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
فأجاءَها المخاضُ إلى جِذْعِ النخلةِ
16/05/2020 - 1:00am

من جماليات فن القول العربي
     مريمُ عليها السلام أكثرُ امرأة ذِكْرًا صالحًا في القرآن الكريم ، فهي من آلِ عِمران المصْطَفَيْنَ الأخيار وهي التي قال الله فيها " وليس الذكرُ كالأنثى" (سورة آل عمران ،آية 26)،هي دعوةُ أمها التي نذرتها وقفًا لطاعة الله قانتةً ساجدةً راكعةً مصدقة بكلمات ربها ، وقد تقبَّلها ربُّها بقَبول حَسَنٍ وأنبتها نباتًا حسنا ، وكان رزقها يأتيها رغدًا في محرابها بعد أن انقطعت للعبادة ، وهي التي حاورتها الملائكة قبل إنجابها عيسى عليهما السلام وبعد إنجابه ، فقد صُنِعَتْ على عين الله وفي كَنَفِ زوج أختها زكريا الذي حينما رأى تبتُّلَها ورعاية الله لها دعا ربه ليهبَ له يحيى وليًّا، وهي من قبلُ ومن بعدُ من خير بيت في العالمين آل عمران.
    وفي قصة إنجابها قصَّ القرآن قصتها في آيات بينات في سورة مريم ، وسأقف عند قوله تعالى : " فأجآءَهَا المخاضُ إلى جِذعِ النخلةِ قالتْ يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا وكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًا"(مريم ، آية 23) ، لقد تكرر شرح هذه الآية عند المفسرين وشرحوا فأجآءها : بألْجَأها وجاء بها ، ورأى أكثرهم أن المخاض هو الطَّلْقُ حين الولادة . وفي رأيي حسب الدلالة السياقية أن ذلك ليس صحيحًا ، فالفعلُ جاء لازم من حيث البناء النحوي ؛ أي يلزم فاعلا بلا مفعول به ، ويمكن أن يأخذ مفعولا به إذا سبقه همز أو ضُعِّفَتْ عينه أو زيدت على فائه ألف ، كقولنا من جَلَس : أجلس ، جلَّس ، جالس.وأي زيادة في مبنى اللفظة يعني زيادةً في المعنى، والاختلاف في الحركات يؤدي إلى اختلاف في المعنى ؛لذا  : جاء بها تحمل معنى الانقياد بإذلال  للمجيئِ به، وما أُريدَ لمريم ذلك، فجاء بها من حيث الدلالة غير أجاء. وأما ألجأ ، فمعناها مختلف ، فهي تفيد سرعة الحركة مع الخوف ، ولم يستخدم القرآن جاء بها وألجأها في التعبير ، بل استخدم أجآءها ، وقد أسند الفعل إلى شيء  مطلق مُؤَنْسَنٍ (المخاض) والمخاض في اللغة شدة الحركة أي حركة الجنين في الرحم، فمن جاء بمريم إلى جذع النخلة بعد لحظة الحمل مباشرة هو المخاض الذي تحوَّلَ من ألم معروف عند النساء جميعا إلى مخاض مَرْيَمِيٍّ خاص ، فهو مُؤَنْسَنٌ بمشاعر الإنسان والحنان والعطف ،يحنو عليها وهي تسير معه بهدوء جسدي؛ فلم يشغلها وجعُ المخاض بل الحزن من تبعات الإنجاب ، ومما أضفى على الفعل جآءها بُطْئًا حركيا مَدُّ الألف مقدار أربع حركات إلى ست حسب قواعد علم التجويد ، والمد يتناسب صوتيا مع تثاقل سيرها وبطْء حركتها والحزن النفسي الممتدِ من لحظة تَمَثُّلِ رُوْحِ الله لها بشرًا سويًّا ، وفي ضوء ما سبق أقيد المبينات الآتية :
أولا : أن صيغة أجاءها استخدمت قبل تنزل القرآن في المعنى نفسه وهو السير الهادئ الذي يصحبه الأمل والرجاء، يقول زهير بن أبي سُلمى وهو من كبار الشعراء قبل الإسلام :
وجَارٍ سارَ معتمدًا إليكم      أجاءتْه المخافةُ والرجاء
ثانيا : أن استخدام الفاء ( حرف تعقيب يُسَرِّعِ الأحداث ) في مفتتح أفعال متوالية ، وهي :فحملته فانتبذتْ به فأجآءها ، تنبئ دلاليًّا أن حمل مريم كان سريعا خاطفا لم تشعر بآلامه وهذا يتفق مع سياق حالة مريم  كما يتوافق مع إعجاز الحالة الخاطفة في الحمل لو كان قومها يؤمنون بالمعجزات، لم يتعبها الحمل ولا المخاض بل الحزن مما سيكون ؛ لذا أراد الله أن يخفف عنها ولا يرهقها من أمرها عسرا.
ثالثا : أن ما كان يؤرق مريم هو معرفتها بقومها ، وأنهم بالتأكيد سيقذفونها بالإفك ، ولعل ذلك ما تحقق بالضبط ، ألم يخشَ زوجُ أختها زكريا من قبلُ من قومه - وهم أنفسهم قوم مريم - حينما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب وبشرته بابنه يحيى نبيا ، لم يكن قومهما ملائكة ولم يكونوا صالحين كذلك ، ألا يضاعف ذلك من حزن مريم أضعافا كثيرة!! إن مجتمع مريم وزكريا لم يكن يؤمن بالنبوة ولا بآياتها ولا بكرامات أولياء الله ، ألم يتحقق ما راود مريم من خشية ، فقالوا جميعا غير ناظرين لماضيها التَّبَتُّلِيِّ " يا أخت هارونَ ما كان أبوكِ امرأَ سَوْءٍ وما كانت أمكِ بغيًّا "(سورة مريم ، آية 28) ثم يقال إن الطلق هو ما جعلها تتمنى الموت وتكون نَسيا منسيا !فأي تفسير هذا !!
رابعا : إن الدليل على أن مريم كانت تعيش حالة من الحزن المتزايد قبل وضع جنينها قوله تعالى " فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربُّكِ تحتكِ سَرِيًّا" (سورة مريم ، آية 24) لم يقل ألا تتألمي لأنها لم تكن كذلك بل كان الحزن هو المسيطر، ولم يقل ألا تخافي لأنها لا تخاف بعد أن علمت أنها في رعاية الله ،ولم يقل ولا تخافي ولا تحزني كما قال لأم موسى قبلها، ما كان يحزنها هو الكلمة الجارحة التي ستسمعها على الملأ ، وما سيحزنها أن قومها وهي الخبيرة بهم لن يؤمنوا بابنها نبيا .
خامسا : حينما نُوْدِيَتْ مريمُ وطلب منها أن تهز جذعَ النخلة ، لم يكن بفعل ألم المخاض بل كانت آية أخرى لها كي يطمئن قلبها ولا تحزن ، كانت آية محسوسة ، تلمسُ النخلةَ فتتحول حركيًّا بجذعها وثقلها ورطبها إلى خِفَّةٍ مطلقة  ، ولم تتحول مريم إلى بطلة في هز الأثقال ورفعها، بل أراد الله أن يُسَرِّيَ عنها لحظة التوتر النفسي والانفعال العاطفي وحساباتها الواقعية المستقبلية.
خامسا : إن مريم قد انطلقت مباشرة إلى قومها تحمل رضيعها ، فلم تلبثْ في المكان الشرقي أياما تخطط ، ولم تبحث عن ملجأ أو مغارة أو مُدَّخَلٍ تأوي وابنها إليه ، ولم تتسلل لِوَاذًا إلى رؤوس قومها ليحموها ، بل أتت به قومها تحمله ، وبعدما سمعت من ألسنتهم الحداد غمزا ولمزا وقذفًا أشارت إليه ، لأنها تبحث بحزنها عن المعجزة التي انتظرتها ، وكانت البشارة لها سريعا من الرضيع متكلما بلسان مبين :إني عبد الله ، ثم تتوالى المبشرات لمريم .
سادسا : لم يتحدث القرآن عن مخاض أمهات الأنبياء لأنه ليس حالة عسيرة خارقة فكل النساء يحملن ويعتريهن المخاض ،لكن مخاض مريم كان مختلفا فقد تحول إلى صورة إنسان ليخفف عنها حزنها وقد أجاءها إلى جذع النخلة حانيا ومهدئا .
       وبعد ، فما أحوجنا إلى قراءة النص القرآني من داخله وليس من خارجه لفهم سياقاته اللغوية وجمالياته الدلالية التي تلاشت خلف السرديات التاريخية التفسيرية ، تلكمُ مريم ابنة عمران التي خاطبتها الملائكة قبل ميلاد ابنها وبعده ، وقد سُمِّيَتْ سورةُ مريم باسمها ، كما سميت سورة آل عمران باسم آل بيتها ، والدها عمران وأمها وابنها عيسى وابن أختها يحيى وهي معهم جوهرة العقد القِدِّيسة البتول، عليهم السلام جميعا.
أ.د. خليل الرفوع 
أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)