TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
ذكريات محمد داودية: فيضُ ذاكرةٍ وفنُّ حكايةٍ وألقُ لغة
29/05/2020 - 5:45am

طلبة نيوز-
افتتاحية : ثلاثون ذكرى من ذكريات الكاتب محمد داودية نثرها فوحًا وبوحًا ووجدًا في قلوب قارئيه ومريدي الزمن الجميل خلال شهر رمضان، وهي ذكريات وليست مذكرات أو يوميات أو سيرة ذاتية ؛ سماها كذلك لأنها مما يتذكره بعد حوالي خمسين عاما ؛ لم تدون لحظة وقوع الحدث أو بعده، وهي ليست سيرة ذاتية أو أدبية لأن الكاتب أغفل أحداثا كثيرة لم يروها عن حياته ولم يتسلسل تاريخيا في السرد عن مسيرته ، فهي ذكريات لأحداث واقعية بنكهة أدبية ولغة شاعرية تستحق أن تروى.
  تجربة الكتابة التذكّرية الأدبية فن لا يتقنه إلا من أوتي مَلَكَةَ اللغةِ بيانًا وأسلوبًا وتعبيرًا، ولقد استطاع محمد داودية أن يسرد ذكرياته بأسلوب حكائي ماتع شائق، تمتد  من نهايات الخمسينيات من القرن الماضي إلى منتصف السبعينيات، وهذه السنون جزء من تاريخ الحركة التأسيسية للأردن، وفيها كان الوطن  يحلق بجناحيه المتلازمين الذهبيين : الجيش والتعليم، وكان مسرح الذكريات القرية الأردنية بفقرها وكدحها وقسوة ظروفها، كانت معدنا لصقل الشخصية الأردنية رجولةً وشهامةً وعسكريةً وصرامةً وصلابةً ومشقةً وعلمًا، القرى التي عاش فيها الكاتب ودارت فيها ذكرياته هي رمز للأمكنة التي شكلت هوية الوطن وإرثه وتاريخه، في  الأجفور  ولد الكاتب وفي المفرق بدأ وعيه وفي سويمة الغور انطلق نحو آفاق الحياة معلما لينطلق بعدها إلى معان وقرى الشوبك وبصيرا والطفيلة وقرى المفرق ليستقر في عمان صحفيا قد مخضته تلك القرى وشدت عروق شخصيته وأحكمت رياحين مدادها على قلمه ليكون بارًّا بوطن يستحق العشق والحياة.
فيض ذاكرة : هي أحداث قد مارتْ بها الذاكرة سنينَ طوالا لم تكن راكدة بل ظلت في زواياها تتلاعب وتتلاقح وتتشابك  حتى آن أوانها لتخرج بِكرا أو كالبكر، أحداث كثيرة عريضة بدءا من بيع المجلات الفنية وصنع الفلافل والحمص والتهام التونا بزيتها من علبها مباشرة وطهي الرشوف على البريموس، وإطعام طلابه من طعامه وغلي الحليب لهم وتحويل غرفته إلى قاعة لتدريس صفوف مُجَمَّعة يتلقون فيها دفء الأبوة ودروس الحياة ، ذلكم المعلم الذي انغرس في الأرض قبل أن يقف أمام طلابه مدرسا، وذلكم هو مدير مدرسة حمامة العموش في المفرق وقد شمر عن ساقيه ليشطفَ قاعات الدرس وليزرعَ بذرة النظافة الأخلاقية قبل الجسدية، وفي ثنايا ذلك لفتة لذكرى معلمة تغسل طالباتها بالماء والصابون دون تقزز، إنها قداسة الرسالة في التعليم أن يتحول الطالب إلى ابن والطالبة إلى ابنة تحت عنوان مقدس هو : التربية قبل التعليم، وكلاهما أخلاق وانضباط وسلوك وفكر  ونظافة وطهارة. تفيض الذكريات بالمواقف الإنسانية والسياسية، وكان الكاتب صانعا أو مشاركا فيها، يربط بينها نَهَمُ الكاتب بقراءة الأدب شعرا ونثرا وتلك سمة قوة عقلية وَسَمَتْ كتاباته من بعدُ ، فأن يقرأ معلم عشريني في قرية سويمة سنة ١٩٦٦م رواية ذهب مع الريح وأخواتها من الروائع العالمية فذلك فتحٌ في قلب فتىً يشبة نقش إزميل فولاذي صلب في حجر صلد، وأن ينتمي معلم في قرية نائية إلى فصيل مقاومة لأن المفكر الروائي غسان كنفاني أحد رموزه النضالية فتلك ذكرى تنبئ عن إحساس بعظمة النضال حينما يستند إلى فكر ثاقب توجهه أمنيّة الشهادة التي جمعت الكفاح كله على ضفتي نهر الشريعة  ليكون الأردنيُ والفلسطينيُ كتفا عريضة محكمة لبندقية فوهتها نحو عدو مغتصب، لقد فاضت الذكريات بحكايات لم نسمعها من قبل، وحكايات خاصة ورؤى في الحياة وتجارب مع الأصدقاء والطلاب والناس والوطن والآخر الدولة والعدو.
  الحكاية فن : الحكاية فن قصصي بدأ شفويا منذ بدء الإنسان وهو أقدم الفنون، وفي كل منا تُخْتَزن حكايات كثيرة، لكن رصدها وتحويلها إلى الآخرين مشافهة أو كتابة لا يتقنه إلا المحترفون المَهَرة لسانا وخيالا، وذكريات محمد داودية هي حكايات مسرودة بلغة وصفية واقعية، وليسمحْ لي بتسمية هذه الذكريات ( بالتعليلة الداودية) ، وكأن الكاتب يقص أو يحكي لأناس يسمرون ويتحلقون حوله بأُلفة دافئة؛ يراهم ويسمعهم ويحسهم ويشاركهم الضحكَ والحديث ذاكرا أسماءهم وصفاتهم ومنشطا ذكرياتهم معه ، كان بارعا في السرد وفي الانتقال بين القصص والمواقف والمواقع بلا تكلف لفظي أو تصنع خيالي، أكثرها قصص تراجيدية عجائبية مبطنة بكوميديا مدهشة ، قصص طويلة في أصلها لكنها موجزة بأسطر معدودة معبرة ، قصة خروجه مع زميله جليل الهلسا من مجرا إلى المزار الجنوبي تحت هطول الثلج وتجمد جسديهما وما حدث لهما في الطريق لا يتخيل قسوتها إلا من عرف تلك الطريق ببردها وثلوجها وريحها، وقصص مشاركته في أعراس قرى الشوبك فيها من التشويق ما جعل صينية الأستاذ المُحَمّى عن الأرز حكايةً بديعةً وحدها، تلك حكايات جاءت من اندغام مطلق للمعلم بالمجتمع بحلوه ومره وفقره وجوعه لكنه مجتمع رجولي نَخَويّ يقدر العلم وأهله، وإن القارئ ليشعر بفنتازية القصص وخياليتها وأسطورتها لولا أن أكثر الأردنيين عاشوا أمثالها.
ألقُ اللغة : اللغة بفصاحتها وإيحاءاتها استطاعت ضبط فيض الذكريات وازدحام أحداثها، لم تكن فصحى بل فصيحةً شعرية فيها رشاقة وخفة وسرعة وإيجاز دون إسهاب ممل أو تقعر طارد أو إنشائية ركيكة، الحكاية في أصلها مدهشة قد نُقِلت بألفاظ مألوفة مموسقة تتجانس فيها الحروف بجمل قصيرة رشيقة، وما يلفت نظر القارئ وينبش مخزونه اللغوي تلك الإضاءات للمفردات التراثية الأردنية وهي من خبايا الزمن القروي الجميل، قد جعلت الذكريات خفيفة في قراءتها، ومن تلك المفردات التي تموقعت في سياقاتها: اِغْماس، اليَطق ،الطَّبْش، تبغدد، الجَرْكن، لقن الغسيل، يجظّ، مقرمز، تزرُط ريقها، ولّع الباطون ولع اشتغل ولّا اتقلع، وغيرها.
تلكم ذكريات كشفت تركيبة القرية الأردنية إنسانا ومجتمعا وتفكيرا وسلوكا نفسيا ثقافيا  وقهرا  اقتصاديا وتطورا ماديا، لقد كان الأردني يعيش قسوة البيئة وعداوة بعض ذوي القربى وقلة المال ومع ذلك استطاع أن يغالب الدنيا بالعلم والصبر والرضا في وطن يستعصي على التكلس والتيه والضياع والخراب .
وبعدُ، فلقد قدم الكاتب فنا سرديا جديدا ينتمي شكلا وروحا للأدب العربي الذي يعد أصدق مصدر لتصوير الحياة،وهي ليست شعرا كما أنها ليست رواية، لكنها كتبت بلغة شاعرية راقية فيها إيقاعات الموسيقى وفنية التصوير ، واستعارت من الرواية حركية الأحداث وعناصرها وظلالها وحواراتها ومساراتها، ومن ذلك كله كانت جمالية البيان والدهشة والغرائبية والمتعة لتذكرنا بحكايات الجاحظ ونوادر ابن دريد وأمالي القالي،وإنها لدعوة للكاتب كي يستمر في حلحلة جَمَرات ذاكرته وجَذَواتها لمزيد من الاشتعال والتوهج في قابل الأيام.
أ. د. خليل الرفوع
أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)