د. أحمد بطَّاح
من المعروف أنّ إسرائيل ذات نفوذ كبير في المؤسسات الأكاديمية وبالذات الأمريكية منها، وقد دلّت الأحداث الأخيرة على أن كثيراً من هذه المؤسسات المرموقة والمشهورة عالمياً تقيم "شراكات" مُهمّة في مجال التطوير والتصنيع مع إسرائيل، غير أن الهجمة الشرسة واللاإنسانية التي تقوم بها إسرائيل على قطاع غزة وما تمارسه من تدمير، وترويع، وتهجير، وتجويع بحق أبناء الشعب الفلسطيني في القطاع المنكوب أدى إلى "يقظة ضمير" لدى الطلبة وبعض أعضاء هيئات التدريس في كثير من هذه الجامعات والمؤسسات الأكاديمية ليس فقط في الولايات المتحدة حيث بدأتْ ولكن على امتداد العالم كله.
إنّ المتأمل في هذا الحراك الأكاديمي المهم لا بدّ أن يتوقف عند عدد من الظواهر المُلفتة التي شكلت بحق "انتفاضة" أكاديمية في وجه إسرائيل ولعلّ أهمها:
أولاً: لقد بدأت هذه "الانتفاضة" الأكاديمية فيما يُسمى "جامعات النخبة" وأشهرها ليس فقط في الولايات المتحدة بل على مستوى العالم كجامعة "هارفارد" (كانت الأولى في التصنيفات Rankings العالمية ولعدة مرات)، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، وجامعة كولومبيا، وجامعة برنستون، وجامعة ييل، الأمر الذي يعني أن أذكى الطلبة، وبعض ألمع أعضاء هيئات التدريس في هذه الجامعات يحتجّون بأقوى العبارات ضد ما يجري في غزة بل ويطالبون بقطع الصلات وأشكال التعاون مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ثانياً: أنّ هذه "الانتفاضة" تقوم على أكتاف الشباب (أيّ الطلبة) أساساً، وهم عِمادُ المستقبل وقادته، وهذا يعني فيما يعنيه أنّ أصحاب القرار في المستقبل سوف يكونون من هؤلاء ممّا يخيف إسرائيل ويجعلها تتحسّب لما يمكن أن تكون عليه السياسات المتعلقة بها في قادم الأيام.
ثالثاً: أنّ من المؤكد أن يكون لهؤلاء الطلبة تأثير غير بسيط على أسرهم وأصدقائهم ومحيطهم الاجتماعي، الأمر الذي يعني أنّ مناصرتهم للقضية الفلسطينية بتعبيراتها المختلفة (رفع العلم الفلسطيني، فلسطين حُرَّة Free Palestine) سوف تتسرب إلى قطاعات مجتمعية أوسع، وهذا بلا شك يكتسب أهمية خاصة في المجتمعات الغربية حيث دأبت الأجيال الأكبر سناً على الوقوف إلى جانب إسرائيل، واعتبارها "ضحية" مُهدّدة بمحيط معادٍ لها.
رابعاً: إنّ "انتفاضة" الأكاديميا هذه تحمل تشكيكاً واضحاً في "السردية" الإسرائيلية القائمة على أنّها دولة تُدافع عن نفسها، وأنّها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنّها تعاني تاريخياً من نزعة اللاسمية (Anti-Semitism). إنّ هذا الحراك الطلابي في المؤسسات الأكاديمية يأتي من أجيال واعية ذات موقف مبدئي وفكري تتحمّل من أجله التضحية، ولذا فهو ذو دلالة كبيرة تستحق التسجيل والوقوف عندها.
خامساً: أن "انتفاضة" الأكاديميا لم تقتصر على الولايات المتحدة بل تسرّبت إلى كثير من دول العالم وبالذات الغربية منها، والجدير بالذكر حقاً أنها وصلت إلى أعرق الجامعات في هذه الدول (أكسفورد وكامبريدج) في بريطانيا، و(السوربون) في فرنسا، وكذلك مثيلاتها في ألمانيا وبلجيكا وغيرها، الأمر الذي يعني وقوف الأجيال الشابة، والواعية والأكثر ذكاءً وتحصيلاً في وجه سياسات هذه الدول المناصرة لإسرائيل بغير حدود وبغير شروط. إنّ مؤسسات "الأكاديميا" ومراكز الأبحاث هي "عقل" الدول، وإذا وقفت هذه المؤسسات بما لها من رمزية في وجه سياسات دولها فإنّ هذا يستدعي من هذه الدول أن تراجع سياساتها.
سادساً: إنً "انتفاضة" الأكاديميا في الدول الغربية قادت فعلاً -وإنْ بدرجة محدودة حتى الآن- إلى تراجع بعض الجامعات عن التعاون مع إسرائيل في مجالات التصنيع والتطوير، وهذا بلا شك خسارة مؤكدة لإسرائيل التي تعتبر علاقاتها الأكاديمية مع هذه الجامعات ذات أهمية كبيرة حيث إن إسرائيل هي من أغنى (32) دولة في العالم ويقوم اقتصادها القوي في الأساس على تفوقها في مجالات العلوم والتكنولوجيا.
وأخيراً فإنّ إسرائيل قد خسرت الكثير بسبب حربها الهمجية على غزة، ويتجلّى ذلك في اتهامها بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، وموقفها المرفوض في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقطع بعض الدول العلاقات السياسية معها، ولكنّ خسارتها "للأكاديميا" في العالم وبالذات في الدول الغربية (وعلى رأسها الولايات المتحدة) يعني أنها تخسر الأجيال الشابّة والواعية كما يعني أنها تقف في الجانب الخاسر من التاريخ وأنّها لا بدّ أن تدفع الثمن غالياً، وإنّ غداً لناظره قريب.
اضف تعليقك