
أ.د. مصطفى محيلان
الأحداث العالمية سواء كانت من صنع الإنسان أم قَدَرية، تبدو انها تضغط باتجاه توَلُد تكتل جديد على هيئة «ولايات متحدة آسيوية»، ولربما لا يرغب هذا التكتل بأن تكون له حدود سياجية من حوله مستفيداً من نموذج الإتحاد الأوروبي، وربما احتفظ كل من انضم إليه بقواته المسلحة، وبأيديولوجيته، ولكنه يرغب في جميع الأحوال بأكثر من التنسيق المشترك، وبأصوات أكثر في مجلس الأمن لصالح منتسبيه، وبتعاون أمني أكثر جبروتا يمثله ويحمي مصالحه ،سواء على المستوى السياسي أو الإقتصادي أو التنموي.
فجمهورية روسيا الاتحادية وبخاصة في مرحلة فلاديمير بوتين، تبدي رغبتها الواضحة بإثبات مكانتها عالميا كقوة عسكرية وسياسية لها نفوذها، وعليه فهي الداعمة لأصدقائها وحلفائها «على استحياء» يتناسب عكسياً مع ما تواجهه من ضغط أمريكي خاص بكل حالة على إنفراد، مع وجود استثناءات كالتي نعيشها اليوم في الأزمة الأوكرانية التي لم يكن للخجل فيها مكان، إذ لا يمكن أن تقبل روسيا في أن تَتنازل أو يُتنازل عن جزيرة القرم هدية خروتشوف (ومسقط رأسه) لأوكرانيا «الإنقلابية»، والتحول السريع في نقل الدولة من أحضان روسيا لأحصان الغرب، خاصة وأن الإدارة الأوكرانية المترجلة كانت روسية الهوى، وقريباً من ذلك هو الحال بين روسيا وسوريا، فمع أن روسيا مهدت لكي تُسلم سوريا ترسانتها الكيميائية رهبة لا رغبة للغرب، وبتنسيق كامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها لم تتنازل عن حق إبقاء الحكم في سوريا على حاله فالمصالح الروسية أكبر من العتب الأمريكي.
دول أخرى أيضاً مثل الصين سعت ولو منفردة لتبؤ المنزلة التي تصبو إليهاً، من خلال تجاوز عتبة الأيديولوجيا التي كانت عائقا أمام فرص تطور علاقاتها مع آخرين، بل باتت في العهد الجديد الذي بدأ في العام (1978-2008) ترتكز في تحقيق مصالحها وخدمة مشروعها الوطني النهضوي على فكرة «اللانموذج» وكذلك « المجتمع المتناغم»، ويقصد به عدم إتباع نموذج إقتصادي أو أنمائي معين طالما انه يؤدي إلى نجاحات تخدم مستقبل الصين، فإذا ما اثبت ذلك الأسلوب نجاحه تم تعميمه في أماكن أخرى، مثال ذلك المناطق التنموية التي بدأت بثلاثة أماكن حتى إذا ما كتب لها النجاح وجلبت الإستثمارات العالمية تم تعميمها على عشرات المناطق، حتى أن أجزاء من الصين الآن تعمل بفكر رأسمالي وأجزاء أخرى بنهج أشتراكي، وهو ما يعرف بإقتصاد السوق الإشتراكي، الذي يمكن تلخيصه بأنه النظام الجامع لكل ما يميّز الإقتصادين الرأسمالي والإشتراكي، ولقد أعلنت الصين بصراحة أن الإعتماد على الواقع هو مقياس وحيد لصحة النظرية، (فلا يهم لون القط طالما أنه آكل للفأر)، علماً بأنها استخدمت سياسة التعاون والمصالح المشتركة مع الغير، فبات التقارب معها قائما على أساس التعاون الاقتصادي أولاً، وبالذات الانفتاح على الرأسمالية والعالم الخارجي، وهي اليوم تحض العرب على الاستفادة من النموذج الصيني وخاصة في مجال التنمية، وهي تخطط وبخطى مدروسة للمرحلة القادمة وهي النصف الثاني من القرن الحالي، والتي تشير بعض التقديرات بأنها ستكون القوة الإقتصادية الأولى عالمياً، والإقتصاد يعني بالضرورة قوة عسكرية تحميه وتوازيه، وهي تعمل بكل ما أوتيت من دبلوماسية ومن أمكانيات لدعم الدول التي تعتقد انه يمكنها التحالف معها في عالم الغد الجديد، وقد اشترطت لذلك أمورا اهمها عدم تبعية الدول الراغبة بالتحالف معها لآخرين، والذي أُطلق عليه مصطلح المصاحبة الحضارية كما ورد في كتاب (العرب ومستقبل الصين)، والتي قصد بها الشراكة الممكنة بين دول غير متكافئة في الإمكانات، وأن تقدم تلك الدول للصين ما سيقابل ما تقدمه الصين لها، فهي تعلن أن العواطف والأيديولوجيا لا مكان لها في العلاقات الصينية مع الغير وأن المصالح هي أساس التقارب.
من هنا فإن التوافق الروسي الصيني أصبح يشتد مؤخراً بفعل الحث (الإستثارة) الغربي له، وشعور روسيا بأن حدائقها الجانبية قد إنتهكت، ولكون الصين بحاجة لمستثمرين لأستكمال ودعم مشروعها الوطني النهضوي، ودول أخرى مثل أيران والتي هي بحاجة للطاقة لدعم إقتصادها، (ولكون صديقاتها قد تخلوا عن فرض أيديولوجياتهم على الغير)، وكذلك سوريا التي ترغب التعلق ولو بقشة لبقاء النظام الحالي فيها من دون شروط، ودول أخرى لها حكاياتها وهمومها، فلا يبقى إذاً ما يمنع من نشوء الولايات المتحدة الأسيوية، كتكتل أساس تكوينه، أمني، إقتصادي، تنموي، نهضوي، حام لمصالح منتسبيه وإستقلالهم وعدم تبعيتهم، ويعمل غالباً بحسب اللانموذج الصيني الناجح، فلكل الحق في استخدام وسائل رُقيه، طالما أن النتيجة هي مصلحة التكتل أجمع، وباب العضوية مفتوح للغير.
هل ما نعيشه اليوم يؤكد وجود «ولايات متحدة أسيوية» أم أنه يدفع بإتجاه تكوينها؟!
muheilan@hotmail.com
اضف تعليقك