TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
المعلقاتُ وأسطورةُ التعليقِ على الكعبة
08/11/2019 - 4:00pm

إنَّ فكرةَ تعليقِ مجموعةٍ منتخبةٍ من القصائدِ على الكعبةِ من القضايا التي لا يلتفتُ إلىها كثيرٌ من حفظة الشعر ومتذوقيه ودارسيه ، ولعل الخوضَ في هذه المسألةِ ضربٌ من البحثِ في حقبةٍ زمنيةٍ تغيبُ تفاصيلُها وأحداثها ، لكنَّ أجودَ القصائد أبْدِعَتْ في ذلك العصر المُسَمَّى بالعصر الجاهلي أو عصر ما قبل الإسلام ،وهي قصائدُ تنمازُ ببراعة السبكِ والبنية المتكاملة التي توحي بِرُقِيِّ اللغة والصورة والإيقاع ، وفي ضوء القراءة الواعية لمعطيات العصر ونتاجهِ العقلي يمكن القول : إنه عصر الشعر الأول من حيث الأوليةُ الزمنيةُ ، والإبداع الفني ، وهو حكم قد يبدو انطباعيًّا بيد أنه صادرٌ عن رؤيةٍ تعي الشعرَ بَدْءا من العصر الجاهلي الذي تنزَّلَ فيه القرآنُ الكريم مرورًا بالعصور المتتابعة إلى يومنا هذا .
ولعلَّ مسألةَ تعليق المعلقات على الكعبة من أهم الموضوعات التي تنطوي على فكرتين متناقضتين ؛ إحداهما تؤيدُ التعليق والأخرى ترفض ، والرأي الذي يُطْمَاّنُّ إليه أنها لم تُعَلَّقْ على أستار الكعبة ، فأول مَنْ ذكرَ أنها عُلِّقَتْ ابن الكلبي ( ت 204 هـ )، وهو من الرواة المشكوك في صحة رواياتهم ، وقد تابعه ابن عبد ربه الأندلسي ( ت328هـ ) ، ثم ابن رشيق القيرواني (ت463 هـ )وابن خلدون (ت 808هـ)، ويلاحظ أن أول خبر للتعليق جاء بعد ثلاثة قرون من العصر الجاهلي .
وأما مَنْ أنكر التعليق فأبو جعفر النحاس ( ت338هـ) ، وقد قال : " إن التعليقَ لا يعرفه أحد من الرواة" ، وتبعه أبو البركات ابن الأنباري ( ت 577 هـ) ، وياقوت الحموي (ت 626هـ ) ومن المحدثين : طه حسين ومصطفى صادق الرافعي وشوقي ضيف ، ومن المستشرقين : نولدكه . وكان حماد الراوية ( ت156هـ) أول من اختار سبعا منها وسماها السبع الطِّوال وشهَّرَها بين الناس .
والمعلقات هي للشعراء : امرئ القيس الكندي اليمني ، وزُهَير بن أبي سُلمى المُزَنِي ، وطرْفَة بن العبد البكري ، والنابغة الذبياني ، وعَبِيْد بن الأبرص الأسدي ، وعنترة العبسي ، وعمرو بن كُلْثُوْم التغلبي ، ولَبِيْد بن ربيعة العاملي ، والحارث بن حِلَّزة اليشْكُرِي والأعشى البكري ، وعددهم عند ابن عبد ربه سبعةٌ ، وعند أبي زيد محمد بن الخَطَّاب القرشي ثمانيةٌ ، وعند التبريزي عشرة . ولعل الاضطراب في عدد المعلقات مرجعُه الاعتمادُ على الروايات الشفوية والاختلاف في أسماء أصحابها ، وقد أطلق عليها تسميات أخرى منها : السبع الطِّوال ، المُذهَّبات ، القصائد المشهورات ، السبع الجاهليات ، السبعيَّات .
والرأي الذي يُطْمَأنُ إليه في نفي فكرة التعليق يرجعُ إلى أسباب علمية منها : أنه لم يرِدْ في القرآن الكريم أي إشارة إلى أن المعلقات قد علقت على الكعبة ، والمعروف أن القرآن أشار إلى أسماء الآلهة عند العرب كاللات والعُزَّى ومَنَاة كما أشار إلى بعض الطقوس التي تمارس عند البيت الحرام كالمُكَاء ( الصفير) والتصدية ، فتعليق مجموعة من القصائد على أستار الكعبة له دلالاتٌ تمسُّ الجانب الديني ليس لأهلِ مكةَ وحسب بل للعرب الوثنيين الذين يحجون الكعبةَ بطقوسهم التعبدية ليشهدوا منافع لهم ؛ فلن يرضَوا بغير أصنامهم حضورًا في أقدس معابدهم . كما لم يردْ في الشعر الجاهلي أو الإسلامي أو الأموي أو العباسي أيُّ إشارة إلى هذه المسألة ، كما أننا لا نجد ذكرًا لها في شعر أصحاب أولئك المعلقات أنفسهم ، والذي يجدر ذكرُهُ أن تعليق أي شعر على الكعبة أمرٌ يستنفرُ الشعراءَ جميعًا ، فلقد كان همُّ الشعراءِ أن تُذَاعَ قصائدُهم بين القبائلِ كما قال أحدهم واصفًا قصيدَتَه :
تردُ المياهَ فما تزالُ غريبةً في القومِ بينَ تَمَثُّلٍ وسَمَاعِ
ولم يردْ في الأحاديثِ النبويةِ أي إشارةٍ إلى التعليقِ ، خاصةً عام الفتحِ الذي شهدَ انتصارًا للمسلمين على مشركي مكة ، وتطهيرَ الكعبة من الأوثان والأصنام التي ذُكِرَ أنَّ عددَها ثلاثُمائةٍ وستونَ نُصِبَتْ حول الكعبة ، ولو وُجِدَتْ المعلقات على أستارها آنذاك لكان أزاحَتُهَا أو تمزيقها حدثًا مشهودًا مشهورًا.
وعطفًا على ذلك فلم يُذْكَرْ أمرُ التعليقِ في كتبِ السيرةِ التي تعرَّضَتْ لأدقِّ تفاصيلِ حياة الرسول عليه السلام ، والمعروفُ أن كتاب " سيرة ابن هشام " الذي كتبه ابن إسحاق أصلا لفَّقَ أشعارًا ونسبها إلى آدم وعاد وثمود والأنبياء وعبد المطلب والأقوام التي أُبيدَتْ ، وقد نقده ابن سلام الجمحي في ذلك وكنا ننتظر أن يلفقَ خبرَ التعليق . ولم تذكره كتب تأريخِ الأدب العربي ، ومنها : الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، فهو من أكثر الكتب الموثوقة التي أرَّخَت لحياة الشعراء القدماء ، كما أن الجاحظَ والمُبَرِّدَ لم يذكرا هذا التعليق على الرغم من أنَّهما ذكرا نُتَفًا وأبياتًا من المعلقاتِ ، ولم يذكره المؤرخون كابن الطبري وابن كثير وغيرهم.
ومن المعروف أنَّ العلماء اختلفوا في عدد المعلقات ، لكنَّ ما يسترعي النظر أن أيا من شعراء المعلقات لم يكن من أهل مكة ، وهذا ملحظ مهم ، فكيف تقبل قريشٌ بتعليق شعر ليس لشعرائها نصيبٌ فيه ، وإنْ كان الشعرُ فيها قليلا وهذا رأي بحث فيه الجاحظ وقد علل قلة الشعر فيها بسبب قلة حروبها ، لكن سلطان قريش السياسي والديني والاقتصادي جعل من مكةَ عاصمةً ثقافية استفزت بقية القبائل العربية التي مُلِئت قلوبُها بغضًا عليها ، ولعلَّ ذلك كان من أسباب ردتها عن الإسلام بُعَيْدَ وفاة الرسول عليه السلام ، وقد عبر عن هذه النزعة الشاعر الحطيئة فعدَّ بقاءَ الخلافة في قريش قاصمةَ الظهر، وثمَّة موقفٌ آخر يعبرُ عن كره القبائل المضرية واليمنية معًا لقريش بفعل التنافس على زعامة العرب وهو تخاذلُها عن الدفاع عن مكةَ حينما تجرأ أبرهةُ الحبشي بإيعاز من هرقل لتدمير الكعبة وتحويل العرب لحج كنيسة القُلَيْس التي بناها في صنعاء بدوافعَ دينيةٍ اقتصادية ، فلم نرَ أية قوة قبلية تساندُ قريشًا التي عجزت عن الوقوف في وجه أبرهة . ولعل ذلك الميراث العدائي يدعو قريشا إلى رفض مبدأ تعليق قصائد لشعراء تلك القبائل وخاصةً أنَّ بعضَ المعلقات تتضمن فخرًا قبليا محضًا ، وهو رفض ليس له علاقة بقبولها بوضع أصنام تلك القبائل الوثنية حول الكعبة ، فالمسألتان مختلفتان ، فمن المعلوم أن أشهر الأسواق التجارية والأدبية قرب مكةَ كانت مرتبطة بالأشهر الحرم التي يكون فيها موسم الحجِّ الوثني ، كعكاظ ومِنى وذي المجاز وذي المجنة وعرفات ؛ فإبقاء الأصنام في الحرم هو لأسباب اقتصادية خالصة لتحريك التجارة في مكة وما حولها .
كما أن ثلاثا من تلك المعلقات تتضمن فحشا تصويريا للمرأة وهي : معلقات امرئ القيس والنابغة والأعشى ، وهو فحش قولي لا يتناسب والقيمة الدينية للبيت الحرام . ولا يوجد أي أثر يرتبط بزمان التعليق وكيفيته ، ومن حَكَمَ به ، والمعروف في تاريخ النقد أن هناك شعراءَ نقادًا كان يُحْتَكَمُ إليهم كالنابغة وحسان بن ثابت في المفاضلة بين الشعراءِ لكن لم يُرْوَ رأيٌ لهم في هذه المسألة .
يضاف إلى ذلك أنه لم يُرْوَ ما يؤيد التعليق من تفاخر أبناء شعراء المعلقات وحفدتهم من بعدِهم بتعليق قصائد آبائهم على الكعبة ، وبخاصة أن العصبية القبلية قد استمرت بعد الإسلام ، ولا يغيبُ عن الباحث ما بذله الأبناء من نحل شعر آبائهم بدوافع قبلية للفخر بتاريخ القبيلة أو بدوافع مالية من بعض رواة الشعر المحترفينَ ، لكننا لا نجد شعرا منحولا أو مسروقا يعبر عن فخرٍ بتعليق أي شعر على الكعبة ، ونعلم أن أحدَ الشعراء البكريين قد هجا بني تغلب بأنها لم تسأَمْ من رواية قصيدة عمرو بن كلثوم شاعرها الأول التي ألهت تغلبَ عن كل المكارم :
ألهى بني تغلبٍ عن كلِّ مَكْرُمَةٍ قصيدةٌ قالهَا عمرُو بنُ كُلْثُوْمِ
يرْونَــها أبَــدًا مذْ كانَ أولـهُم يا لَلْرِجالِ لشِعْرٍ غيرِ مسؤومِ
فلو كان لقبيلةٍ قصيدةٌ عُلِّقتْ على الكعبة لكانت جديرةً بالحفظ والرواية والفخر ، وثمةَ أمرٌ عقلي تأملي يجعل فكرة التعليق ضربًا من الاستحالة الواقعية ، فجدران الكعبة الأربعة لا تتسع لأن يُكْتَبَ عليها كل هذه المعلقات التي يصل مجموع أبياتها إلى ألف بيت ، ثم إن مسألةَ جمع الشعر لم يُشْرَعْ بها في العصر الجاهلي ، بل هي فكرة إسلامية ظهرت بعد جهود الصحابة في جمع القرآن الكريم في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. 
وتأسيسًا على ما ذُكِرَ يمكن للباحث أن يخلص إلى أنَّ فكرة التعليق كانت ضربًا من التلفيق وبدعةً أسْطَرَهَا أحدُ اللغويين المتأخرين انطلاقًا من هدفٍ نبيلٍ ، مقصدُهُ دفعُ طلبة العلم لحفظ تلك المعلقات لتكون مشهورة بينهم ، ألم يُجْمَعْ على أنها أفضلُ ما قيل في الشعر العربي القديم ؟ أوليس قد عُلِّقَتْ على أستار الكعبة واستحسَنَها العرب وطرَّزوها بماء الذهب !؟ أوليس قد عُلِّقت في خزائن ملوك المناذرة في الحِيرة !؟ فَلِمَ لا تَعْلَقُ في نفوس العلماء وطلبة العلم ؟ وكانت قبل انتشار فكرة التعليق قد حازت شهرة واسعةً عند رواة الشعر الكبار ، حتى إنَّ المفضِّلَ الضِّبِي والأصمعي وهما من العلماء الثقات لم يذكراها لشهرتها في اختياراتهما المعروفة بالمفضليات والأصمعيات ، ولم يذكرها كذلك أصحابُ الحماسات كأبي تمام والبحتري وابن الشجري فلم تكن حينذاك معروفة بهذا الاسم ( المعلقات)، والمعيار الفني هو الذي تقاس به الأعمال الإبداعية ، ولا ريب أنها قد عَلِقَتْ بالعقول والألسنة وليس على الكعبة كما يُزْعَمُ ، وقد فاقت غيرها من القصائد وبقيت طِوَالَ ألف وخمسمائة عام ونيف ينظر إليها نظرةَ إعجاب وتقدير لما تحمل من مضامين وصور متجددة ولغة إيحائية مدهشة وإيقاعات أسست للعقل العربي في طور نموه فبقيت عالقة في ذهن الأمة وخيالها ، ولنا أن نتصور عظمة أمة أبدع نفرٌ من شعرائها هذا النتاج الفكريّ المُمَوْسَق المدهش ، ولعلَّ هذا هو السرُّ الخفي الذي يشدُّ الأمة نحوَ جذورها كلما عصفتْ بها عواصفُ الدهر وعاديات الزمان لتجدَها عظيمةَ الشأن تستند إلى تراث متجذر في باطن التاريخ والمكان والنفوس، وكل بيت من تلك المعلقات يحتاج إلى تأمل عميق لفهم دلالاته ضمن سياقاته المترابطة وهذا هو سرُّ بقائها عصيةً على النسيان في ذاكرة الأمة ولغتها على الأقلِّ.
أ.د. خليل الرفوع

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)