د. أحمد بطَّاح
بعد السابع من أكتوبر بدأت إسرائيل هجمة شرسة على قطاع غزة تمخّضت حتى الآن عن قتل ما يزيد عن (33,000) وجرح أكثر من (75,000) فلسطيني، كما تمخّضت عن تدمير حوالي 60% من مباني القطاع، ولم تتورع إسرائيل عن تدمير النظام الصحي وإلى الحد الذي وصفت فيه "منظمة الصحة العالمية" مُجمّع الشفاء الطبي بعد الهجوم عليه بأنه أصبح "مجرد هياكل مُدمّرة" وبأنه "مقبرة"، والواقع أنّ إسرائيل فضلاً عن أنها مارست "إبادة جماعية" ضد الفلسطينيين تحقق فيها محكمة العدل الدولية أحالت القطاع إلى مكان غير صالح للعيش فيه، الأمر الذي يجعل المحلل المتأمل يتساءَل: تُرى ما دوافع إسرائيل الحقيقية وراء هذا التدمير المُمنهج واللاإنساني الذي استفز ضمائر كثيرين حول العالم؟
إنّ هناك دوافع عديدة يمكن أن نرصدها وراء هذا الفعل الإسرائيلي الإجرامي وهي:
أولاً: الثأر لكرامة المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية التي فوجئت بما لا يزيد عن ألفي مقاتل يقتحمون منطقة "غلاف غزة"، ويحيّدون فرقتها العسكرية ويزيلون أسوارها الشائكة، ويقتلون (1200)، ويأسرون (250) إسرائيلياً وذلك في تحدٍ غير مسبوق لنظرية الردع الإسرائيلية وجيشها "الذي لا يُقهر"، وأجهزة استخباراتها التي طالما تبجحت بقدراتها وإمكاناتها، ولعلّ نتنياهو كمسؤول أول في الدولة كان أكثر من شعر بالمهانة حيث حكم أكثر من أي رئيس وزراء إسرائيلي آخر، وجرى تلقيبه "بسيد الأمن"، و"ملك إسرائيل".
ثانياً: شفاء غليل المواطنين الإسرائيليين الذين أرادوا أن ينتقموا وأن يستعيدوا شعورهم بالأمن بعد أن فقدوا ثقتهم بحكومتهم وجيشهم، وأجهزتهم الأمنية التي طالما شعروا بأنها حامية مقتدرة لهم، ولعلّ مطالعة نتائج الاستطلاعات تدُّل بوضوح على أن الجمهور الإسرائيلي كان وما زال مع ممارسات جيشه الذي أولغ في الدم الفلسطيني، ومارس كل أنواع البشاعات من تهجير، وتقتيل، وترويع، وتجويع.
ثالثاً: تلقين المقاومة الفلسطينية، ومن يقفون وراءَها، ومن يؤمنون بطروحاتها درساً بأنّ إسرائيل دولة قوية، وجيشها مُجهّز بأحدث وأفتك الأسلحة، وأن لديها القدرة على تدميرهم تماماً إذا سوّلت لهم أنفسهم التجرؤ على إسرائيل، ولعلّ هذا يتضح في أنّ أحد أهداف إسرائيل المُعلنة هي القضاء على حماس وبالذات ذراعها العسكري المُسمى كتائب الشهيد عز الدين القسام، ومعها بالطبع كافة فصائل المقاومة الأخرى التي ترفع أو تفكر في أن ترفع السلاح في وجه إسرائيل.
رابعاً: استعادة "هيبة" إسرائيل كدولة قوية أمام الدول العربية (وبالذات دُول الطوق) لكي لا تفكر يوماً في مهاجمة إسرائيل، والبرهنة في ذات السياق للدول العربية الأخرى التي "طبّعت" مع إسرائيل بأنها لم تخسر بل ربحت بجعل علاقاتها طبيعية مع الدولة اليهودية، بل وإغراء الدول العربية الأخرى التي لم "تطّبع" بعد لكي تسير في نفس الطريق. إنّ إسرائيل تريد أن تُذكّر بأنّها أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط، وبأنّ هذه الضربة التي وجهتها لها المقاومة الفلسطينية ليست سوى ضربة موجعة عابرة سوف يتم تجاوزها.
خامساً: استعادة "المكانة" و "الوظيفة" أمام القوى الغربية الكبرى (وبالذات الولايات المتحدة) حيث تدرك إسرائيل أنها "قاعدة عسكرية مُتقِّدمة" للغرب، وأن لها دوراً "وظيفياً" تلعبه في المنطقة العربية (وإن لم تعترف بذلك) وهو يتمثّل في حفظ مصالح الغرب والدفاع عنها، وقد عبّر عن هذا المعنى بوضوح الرئيس الأمريكي "بايدن" عندما قال ذات يوم عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ في سبعينيات القرن الماضي (لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا أن نوجدها!).
وأخيراً فإنّه يجب عدم الخلط بين أهداف إسرائيل المُعلنة (القضاء على حماس، واستعادة "الرهائن"، وعدم تمكين قطاع غزة من تشكيل خطر على إسرائيل مستقبلاً) وبين هذه الدوافع الآنفة الذكر التي كانت وراء السلوك الإسرائيلي العدواني والمُبالغ فيه، وبعبارة أخرى فإنّ إسرائيل كان بإمكانها أن تصل إلى تحقيق ولو بعض أهدافها برد فعل عسكري معقول ومتناسب مع هجوم المقاومة وبما يتوافق مع ادعائها بأنها "تدافع عن نفسها"، ولكنها لم تسلك هذا الطريق لأنها "مدفوعه" بدوافع قوية لا تستطيع مقاومتها، الأمر الذي شاهده العالم، وأدانه بأشد العبارات وأقساها، ولكن الإدانة الحقيقية سوف تأتي من التاريخ الذي يجامل ولا يتستر!.
اضف تعليقك