TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
الجامعة وسوق العمل: كفاءات تبحث عن فرص… واقتصاد يحتاج التحفيز
21/06/2025 - 10:00pm

طلبة نيوز - د. زياد أبو الرُّب – الجامعة الألمانية الأردنية

لم تعد معضلة البطالة في الأردن مجرد رقم عابر في نشرات الإحصاء، بل أصبحت مرآة تعكس اختلالات هيكلية في العلاقة بين التعليم الجامعي وسوق العمل. ففي كل عام، تدفع الجامعات الأردنية بعشرات الآلاف من الخريجين نحو سوق عمل محدود ومضطرب، بينما تتراكم ملفات الباحثين عن فرصة في رفوف ديوان الخدمة أو صفحات المنصات الإلكترونية.

تكشف الإحصائيات الحديثة عن مفارقة صارخة: من بين المتعطلين عن العمل، يُشكّل الحاصلون على مؤهلات ثانوية فأعلى 59.2%، مقابل 40.2% فقط من ذوي المؤهلات الأقل من ثانوية. وفي المقابل، فإن نحو 47.3% من المشتغلين هم من فئة "أقل من ثانوي"، بينما لا تتجاوز نسبة المشتغلين من الحاصلين على مؤهلات جامعية 42.7%، في حين لا تتجاوز نسبة المشتغلين من حملة الثانوية فقط 9.4%. هذه الأرقام توضح أن الحصول على تعليم أعلى لا يضمن فرص عمل أكثر، بل في الاقتصاد التقليدي المحدود الذي نعيشه اليوم، قد تكون فرص الأقل تعليمًا أعلى. وهذا لا يدل على فشل التعليم، بل يكشف خللًا عميقًا في هيكل الاقتصاد الوطني الذي لا يزال غير قادر على توليد فرص معرفية وتقنية تستوعب الكفاءات الجامعية.

ومن هنا، فإن التحدي لا يكمن فقط في ضعف المواءمة بين التعليم وسوق العمل، بل في الأرقام ذاتها. فوفقًا لأحدث التقديرات الرسمية للعام 2023–2024، يتخرج سنويًا من الجامعات وكليات المجتمع الأردنية ما بين 80,000 إلى 90,000 طالب، في حين لا تتجاوز الفرص الفعلية المتاحة في القطاعين العام والخاص 55,000 فرصة عمل سنويًا في أفضل الأحوال. لا يوفر القطاع العام سوى بضع آلاف من الوظائف الجديدة كل عام، وغالبًا في مجالات محدودة، بينما القطاع الخاص يولد فرصًا متذبذبة تعتمد على المناخ الاقتصادي وقد لا تتجاوز 30,000 إلى 50,000 وظيفة حتى في سنوات النمو الجيد. والنتيجة: فجوة سنوية لا تقل عن 30,000 خريج دون وظيفة، ينضمون إلى صفوف الانتظار، أو يفكرون في الهجرة، أو ينجرفون إلى دوائر الإحباط.

يعاني سوق العمل من مجموعة من الخصائص البنيوية التي تُقيد قدرته على استيعاب الخريجين: ضآلة المشاريع الإنتاجية الكبرى، وتضخم الجهاز الإداري الحكومي، وهيمنة قطاع خدمات منخفض القيمة المضافة، واعتماد مفرط على الاستيراد، فضلًا عن تباطؤ النمو الاقتصادي الذي يتراوح بين 1.8% و2.5% فقط.

الجامعات من جهتها، رغم التطورات الملحوظة، لا تزال تركز في كثير من برامجها على المعرفة النظرية، في حين تتطلب بيئة العمل اليوم مهارات تقنية، وخبرة عملية، وقدرة على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة. ورغم وجود مبادرات نوعية كبرامج ريادة الأعمال، وبعض المحاولات لدمج التدريب العملي، إلا أن غياب الرؤية الوطنية المتكاملة، والتشبيك المنتظم مع القطاع الاقتصادي، يقلص من فاعلية هذه المبادرات.

المفارقة أن الاقتصاد الأردني يعمل فيه نحو 2.1 مليون أردني، في مقابل 1.3 مليون عامل وافد، ما يجعل التنافس على فرص العمل محتدمًا حتى في القطاعات غير المعرفية.

تجارب واعدة بدأت تظهر، من حاضنات الأعمال الجامعية إلى مشاريع التدريب المهني، لكنها تظل متناثرة وغير كافية لردم الفجوة. الأهم من ذلك أن أغلب التخصصات الجامعية لا تزال تُطرح دون دراسات جِدية للسوق، ودون وجود آليات ديناميكية لتحديث البرامج أو إيقاف التخصصات الراكدة، ما أدى إلى تخمة في الخريجين وانخفاض في فرص التشغيل.

وسط هذا الواقع، يظل خيار الهجرة والعمل في الخارج حلًا واقعيًا لكثير من الخريجين، رغم ما يحمله من تحديات تتعلق بهجرة العقول، والانفصال الأسري، والاعتماد على تحويلات المغتربين كمورد اقتصادي غير منتِج.

إننا اليوم أمام لحظة مراجعة شاملة. إصلاح العلاقة بين الجامعة وسوق العمل لا يمر فقط من خلال تطوير المناهج أو مهارات الخريج، بل يبدأ بتحفيز الاقتصاد ليكون قادرًا على توليد فرص حقيقية. المطلوب هو نموذج تنموي جديد، يعيد الاعتبار للإنتاج، ويحفّز التصنيع، ويحتضن الكفاءات لا أن يصدّرها، ويؤمن بأن التعليم ليس ترفًا معرفيًا بل رافعة تنموية حقيقية.

وفي الختام، فإن بناء خريج منتج واقتصاد واعد لا يتمان بالمصادفة، بل بالقرار والتخطيط، وبشراكة ثلاثية حقيقية بين الجامعات، والقطاع الاقتصادي، والدولة. وحدها الإرادة السياسية الواضحة، والرؤية الاقتصادية المتقدمة، والجامعة المتجددة القادرة على مواكبة التحولات، يمكنها أن تحوّل الأزمة إلى فرصة.

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)