طلبة نيوز-
بقلم: سعيد التل
إن هذه الورقة رسالة أيضاً إلى جميع المعنيين والمهتمين بموضـوع التعليم والعمل بصـورة عامـة ، وبصورة خاصة إلى دولة رئيس الوزراء الأفخم ، ومعالي وزيـر التعليم العالي المحترم ، ومعالي وزير التربية والتعليم المحترم ، ومعالي وزير العمل المحترم ، آملا أن تكون مفيدة لهم مع فائق التقدير والمودة.
التعليم والعمل
إن الهدف العام لنظام التعليم هو الإسهام في إعداد المواطن الصالح ، وان جانباً مهماً من جوانب إعداد هذا المواطن الصالح إعداده ليقوم بعمل مفيد له ولمجتمعه. هذا ولا بد من التذكير أيضاً ان الدراسات النفسية الحديثة تؤكد فيما تؤكد أن قيام المواطن بعمل مفيد في مجتمعه ، يتناسب مع قدراته وقابلياته واتجاهاته وميوله ، أصبح ينظر إليه ليس وسيلة لكسب الرزق فقط ، بل أنه أيضاً إشباع لحاجة نفسية مهمة لسعادته وراحته واستقراره النفسي. بعبارة أخرى ، لم يعد ينظر للعمل لكسب الرزق فقط ، مع أهمية ذلك وضرورته ، بل ينظر إليه أيضاً لإشباع حاجة نفسية مهمة.
(1) هـرم القـوى العاملـة
بصورة عامة ، هنالك اتفاق بين بعض المختصين والمهتمين بشؤون العمل تقول: بأن مستويات القوى العاملة في أي مجتمع يمكن تمثيلها بهرم يطلق عليه هرم القوى العاملة. وينقسم هذا الهرم ، وبصورة عامة ، إلى ست شرائح ، تمثل كل شريحة مستوى معيناً من مستويات العمل. وابتداءً من قاعدة هذا الهرم ، تمثل الشريحة الأولى في هذا الهرم العمال ، وتمثل الشريحة الثانية الحرفيين ، وتمثل الشريحة الثالثة الفنيين والتقنيين ، وتمثل الشريحة الرابعة المهنيين ، وتمثل الشريحة الخامسة الاختصاصيين ، وتمثل الشريحة السادسة الأخصائيين. ولقد حدد المختصون والمهتمون بشؤون العمل وبصورة عامة العلاقة الرقمية بين كل شريحة في هرم القوى العاملة والشريحة التي تسبقها بواحد كحد أدنى واثنين كحد أعلى على الأقل ، وهذا يعتمد على طبيعة العمل وواقع المجتمع الاجتماعي والاقتصادي.
وهنا يجب التذكر أن من الأبعاد الأساسية في إعداد المواطن الصالح هو إعداده لعمل في مجتمعه يتناسب مع قابلياته وقدراته واتجاهاته. لقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس بقابليات وقدرات واتجاهات وميول مختلفة ، لتتناسب مع الأعمال في المجتمع. وهذه الأعمال وكما هو معروف تتفاوت من حيث ما تتطلبه من عاملين متفاوتين في قابلياتهم وقدراتهم واتجاهاتهم وميولهم. ففي مجال الزراعة وعلى سبيل المثال ، يحتاج المجتمع إلى عمال زراعيين وإلى حرفيين زراعيين وإلى فنيين زراعيين وإلى مهنيين زراعيين وإلى اختصاصين زراعيين وإلى أخصائيين زراعيين. وفي مجال العمال الزراعيين هنالك عمال يعملون في الزراعة المروية ، وعمال في مجال الزراعة البعلية ، وعمال في مجال زراعة الخضار وعمال في مجال زراعة الزهور ، وعمال في العناية بالأشجار المثمرة وهكذا. وينطبق بصورة أو أخرى هذا التصور على جميع أنواع العمل في المجتمع.
من جهة أخرى إن وجود المواطن في أي شريحة من شرائح هرم القوى العاملة لا يعني بأي صورة من الصور أنه رهين هذه الشريحة. إن حق المواطن أن ينتقل من أي شريحة في هذا الهرم إلى الشرائح التي تعلوها وفي أي مرحلة من مراحل حياته ، شريطة أن تتوفر فيه المتطلبات التي تؤهله لذلك. فالعامل في مجال ما يستطيع أن يصبح حرفياً إذا ما طور الكفايات المطلوبة لذلك.
(2) هـرم نظـام التعليـم
بالمقابل ، إن هرم نظام التعليم في أغلب دول العالم يتشكل من ست مراحل هي: مرحلة التعليم الأساسي ومرحلة التعليم الثانوي ومرحلة التعليم الجامعي المتوسط ومرحلة التعليم الجامعي ومرحلة الدراسات العليا ومرحلة ما بعد مرحلة الدراسات العليا. وعلى أساس أن الناس يتفاوتون بقدراتهم وقابليتهم واستعداداتهم العقلية ، ويتباينـون في اتجاهاتهـم وميولهم العملية ، فإن مرحلة التعليم الأساسي تعد للمجتمع ، العمال ، ومرحلة التعليم الثانوي الحرفي تعد ، للمجتمع الحرفيين ، ومرحلة التعليم الجامعي المتوسط تعد للمجتمع الفنيين والتقنيين ، ومرحلة التعليم الجامعـي تعـد المهنيين ، ومرحلة الدراسـات العليا تعد الاختصاصين ، ومرحلة ما بعد الدراسات العليا تعد الأخصائيين. لقد طور علماء التربية وعلماء علم النفس التربوي الاختبارات والمقاييس العقلية والنفسية التي تحدد قدرات وقابليات واتجاهات وميول الطلبة ، بحيث تساعدهم وتساعد أولياء أمورهم على اختيار مستوى التعليم ونوع التعليم الذي يناسبهم. ان واحداً من وظائف المرشد التربوي الرئيسية في المؤسسات التعليمية توجيه المتعلم إلى العمل الذي يتناسب مع قدراته وقابلياته واستعداداته ومع توجهاته وميوله.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ثقافة بعض المجتمعات المتعلقة بالعمل ، تدفع بعض الآباء والأمهات بدفع أبنائهم وبناتهم متابعة دراساتهم لمستويات وتخصصات لا تتلاءم مع قدرات وقابليات واستعدادات هؤلاء الأبناء ولا مع اتجاهاتهم وميولهم. فعلى سبيل المثال إذا ما دفع أب ابنه لدراسة الطب ، مع ان قدرات وقابليات واتجاهات وميول هذا الابن لا تتلاءم مع دراسة الطب ، فإن هذا الأب قد أخطأ في حق ابنه وفي حق المجتمع. فهذا الابن لن يكون سعيداً في عمله كطبيب ، كما ان هذا الابن لن يؤدي مهنته بكفاية وإتقان. إن هنالك أمثلة كثيرة على ذلك وفي جميع الأعمال على اختلاف مستوياتها وعلى اختلاف أنواعها.
(3) العلاقـة بيـن الهرميـن
إن الوضع الطبيعي العام ، أن القوى العاملة في كل دولة تغطي بصورة عامة جميع متطلبات هذه الدولة بدون زيادة أو نقصان ، وبالتالي فليس هنالك بطالة وليس هنالك استقدام لعمالة وافدة. إن هذا الوضع الطبيعي يتطلب أن تكون للدولة سياسة محددة لنظام التعليم بحيث تغطي مخرجات مؤسسات نظام التعليم على مختلف مستوياته وأنواعه حاجات المجتمع من القوى العالمة في مختلف مجالات العمل ابتداء من الأخصائيين في جراحة الدماغ حتى عمال النظافة.
للأسف الشديد إن مثل هذه المعادلة ، التي تربط بين مخرجات النظام التعليمي ومتطلبات المجتمع من القوى العاملة المؤهلة في أغلب الدول النامية ، غير موجودة ، ولذلك نجد في هذه الدول بطالة حادة ، وبالتالي نجد فيها عمالة وافدة كبيرة الحجم. ولعل الدولة الأردنية صورة قد تكون نموذجاً متميزاً للخلل الكبير بين التعليم والعمل في العالم. ولعل أخطر ظاهرة لهذا الخلل تبرز في البطالة المتزايدة للعمالة الأردنية وفي العمالة الوافدة المتزايدة في الدولة الأردنية. تقدر القوى العاملة الوافدة فيها بحوالي (900.000) أي بنسبة حوالي 36% ويقدر عدد العاطلين عن العمل في الدولة الأردنية بحوالي (180.000) أي بنسبة تقدر بحوالي 12.3% من القوى العاملة ويعود هذا الواقع ، وبصورة رئيسية ، إلى غياب الخطة التي توائم بين مخرجات نظام التعليم من جهة ، ومتطلبات الدولة الأردنية من القوى العاملة على مختلف تخصصات ومستويات هذه التخصصات من جهة أخرى. ويبرز غياب هذه الخطة علاوة على البطالة المتزايدة والتي يعيشها المجتمع الأردني بأمثلة كثيرة منها النسبة بين عدد الفنيين والتقنيين إلى عدد المهنيين والذين يمكن تمثيلهم بالنسبة بين عدد الطلبة في كليات المجتمع الأردني وعدد الطلبة في الجامعات الأردنية كما يبرز في غياب هذه الخطة في أمور أخرى.
يقدر عدد الطلبة الذين يدرسون في الجامعات الأردنية بحوالي (304.556)، ويقدر عدد الطلبة الذين يدرسون في كليات المجتمع بحوالي (23.544) بعبارة أخرى ، يقابل كل طالب في كليات المجتمع الأردني حوالي (13) طالب في الجامعات الأردنية. ان هذا الوضع للقوى العاملة هو غير سليم. إن الوضع السليم أن كل طالب في الجامعة واحد إلى اثنين على الأقل في كليات المجتمع.
يقدر عدد خريجي الجامعات الأردنية كل عام إذا كان عددهم حوالي (304.556) طالباً بحوالي (76139) طالباً. إن واقع الدولة الأردنية الاقتصادي والاجتماعي لا يستطيع بصورة عامة أن يستوعب هذا العدد من الجامعيين. فعلى سبيل المثال يقدر عدد الصيادلة في سوق العمل في الدولة الأردنية بحوالي ثلاثة آلاف صيدلاني ، في حين أن هذا السوق ، كما يقول المعنيون ، لا تزيد حاجته عن ألف صيدلاني وهذا ينطبق على كثير من التخصصات.
يقدر عدد خريجي كليات المجتمع الأردنية كل عام إذا كان عددهم حوالي (23.544) طالباً بحوالي (11.772) طالباً. إن واقع الدولة الأردنية الاقتصادي والاجتماعي في حاجة أضعاف هذا العدد من الخريجين كي يؤدى العمل في جميع المؤسسات العامة والخاصة بكفاية أفضل. فعلى سبيل المثال إن المهندس الذي يساعده عدد من الفنيين والتقنيين تتضاعف كمية عمله بعدد هؤلاء الفنيين والتقنيين. وهذا ينطبق على جميع المهن وبدون أي استثناء.
يقول بعض المعنيين بالتعليم والعمالة أن مؤسسات التعليم الأردنية تساهم بدرجة كبيرة في تغطية احتياجات بعض الدول العربية من القوى العاملة. وان هـذه المقولـة صحيحة وسليمة ، فالمخططون للقوى العاملة يستطيعون حسابها وبدرجة كبيرة من الدقة. من جهة أخرى يجب الأخذ بعين الاعتبار أن الدول العربية الشقيقة التي تستقبل العمالة الأردنية أخذت تقلص هذه العمالة وان مؤسساتها التعليمية بدأت تغطي جانباً متزايداً من هذه العمالة.
وأخيراً ، وليس آخراً ، يجب أن نذكـر وباستمرار أن البطالة في المجتمع ، أي مجتمـع ، لا تزيد من الفقر فقط بل تطور أيضاً الحقد والنقمة عند العاطلين عن العمل ، وعدم الاستقرار في المجتمع ، وبالتالي ارتفاع نسبة الخروج عن القانون والجريمة. من هذا المنطلق المهم تبرز أهمية وضرورة ليس فقط وضع الخطط والسياسات التي تنظم العلاقة بين التعليم والعمل ، بل تطبيقها ومتابعتها وتطويرها على ضوء تطورات احتياجات المجتمع ومتطلباته من القوى العاملة.
(4) جامعـة البلقـاء التطبيقيـة
كخطوة من خطوات إيجاد التوازن بين هرم النظام التعليمي وهرم القوى العاملة كانت تأسيس جامعة البلقاء التطبيقية. فلقد تأسست جامعة البلقاء التطبيقية كجامعة ( من جمع يجمع ) لكليات المجتمع العامة والخاصة في الدولة الأردنية. وكان الهدف الرئيسي من تأطير هذه الكليات في إطار جامعة ليس في تغيير وظيفتها في إعداد الفنيين والتقنيين ، بل في تطوير كفايتها في أداء وظيفتها التعليمية ، وزيادة عدد تخصصاتها الفنية والتقنية. والأهم من ذلك كله هو جذب المزيد من الطلبة للالتحاق بها لحاجة المجتمع الماسة لهم وفي جميع المجالات. إن وضع كليات المجتمع في إطار جامعة ، وإتاحة الفرصة للطلبة الذين يتمون دراستهم فيها بتفوق ، أن يتابعوا دراستهم الجامعية في مجال تخصصهم في الجامعات الأخرى عاملان مهمان في عملية الجذب الآنفة الذكر. ففي نظام التعليم في الولايات المتحدة الأميركية ، وعلى سبيل المثال ، يستطيع الطالب المتفوق في البرامج المتعلقة بإعداد الفنيين والتقنيين في مجال الخدمات الطبية أن يتابع دراسته في كلية الطب وكذلك الأمر بالنسبة للتخصصات الأخرى.
للأسف الشديد لم تتابع جامعة البلقاء التطبيقية الهدف التي أسست من أجله بل انحرفت وابتعدت عنه كثيراً ، وأصبحت وبالتدريج وبصورة رئيسية جامعة مناظرة للجامعات الأردنية. فلقد تحولت أغلب كليات المجتمع إلى كليات جامعية. إن عدد الطلبة الذين يتابعون دراستهم ليكونوا فنيين وتقنيين هو (23.544) طالباً وطالبة ، في حين عدد الطلبة الذين يتابعون دراساتهم الجامعية فيها هو (31401) منهم (1008) طالب يتابعون برامج الماجستير.
إن الحد الأدنى للتوازن بين شريحة الفنيين والتقنيين الذين تعدهم كليات المجتمع أو ما يناظرها من مؤسسات تعليمية ، وشريحة المهنيين الذين تعدهم الجامعات وكما ذكر هو اثنين إلى واحد على الأقل ، أي أن يقابل كل طالب في الجامعة طالبان على الأقل في كليات المجتمع أو ما يناظرها. إن هذه النسبة كان الهدف الذي كان من المفروض أن تعمل عليه ، وبالتدريج جامعة البلقاء التطبيقية ، جامعة كليات المجتمع الأردنية العامة والخاصة.
إن تصويب انحراف جامعة البلقاء التطبيقية عن الهدف الذي أسست من أجله يتطلب قرارا سياسياً سريعاً ، كي لا يتعمق هذا الانحراف وتصبح جامعة البلقاء التطبيقية جامعة مناظرة للجامعات الأردنية في المساهمة في زيادة عدد العاطلين عن العمل. إن هذا القرار بسيط جداً ويتلخص في عودة هذه الجامعة إلى الهدف الذي أسست من أجله فقط وبأقرب فرصة ممكنة. ويمكن أن يتم ذلك عملياً بأن تتوقف جامعة البلقاء التطبيقية ، واعتبارا من العام الدراسي القادم ، عن قبول طلبة في برامجها الجامعية وأن يقتصر القبول فيها على قبول طلبة في برامجها الفنية والتقنية.
وهنا لا بد من أن يذكر أن أهمية كليات المجتمع في إعداد الفنيين والتقنيين في العالم المعاصر دفعت الرئيس الأمريكي باراك اوباما أن يطلب من الكونجرس الأميركي في خطاب عن حالة الاتحاد التي ألقاها قبل أيام ( في الحادي والعشرين من كانون الثاني 2015) ، إلى فتح أبواب كليات المجتمع أمام الطلبة الأميركيين الذين يكملون المدرسة الثانوية ليدرسوا فيها مجاناً وبدون أية رسوم أو مصروفات.
(5) الخـاتمــة
وأخيراً وليس آخراً ، إن معالجة الخلل بين مخرجات نظام التعليم ومتطلبات سوق العمل يبدأ أولاً بالمراجعة العميقة الشاملة لنظام التعليم في الدولة الأردنية. وهذه المراجعة تشمل فيما تشمل فلسفة التعليم في الدولة الأردنية ، وبنبته وبرامجه ومناهجه. كما تشمل هذه المراجعة التعليم الجامعي المتوسط ومجالات الاختصاص فيه والتعليم الجامعي وبرامجه ، والدراسات العليا بمراحلها الثلاث. كما يتطلب أن تشمل هذه المراجعة توحيد برامج التعليم العام في جميع مدارس الدولة الأردنية العامة والخاصة من أجل خلق مجتمع موحد في قناعاته واتجاهاته الوطنية والقومية.
إن مثل هذه المراجعة ليست سهلة وميسرة ، بل هي صعبة وصعبة جداً ، وسوف تجد بعض المقاومة من أشخاص وفئات لا تدرك المصلحة الوطنية العليا للدولة الأردنية من أجل بناء مجتمع موحد متماسك متآخ ، يستطيع التصدي بكفاية واقتدار لمعالجة القضايا الصعبة ، التي يعيشها المجتمع الأردني ، والتحديات الخطرة التي تتصدى لها الدولة الأردنية.
من جهة أخرى ، إن هذه المراجعة العميقة والشاملة تتطلب عمليات جراحية مؤلمة جداً ، لكنها سوف تحرر الدولة الأردنية من أغلب الأوجاع والآلام التي يعاني منها الشعب الأردني الأصيل ، والدولة الأردنية المجيدة. والله ولي التوفيق هو نعم المولى ونعم النصير.