TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
مُعضلة البحث العلمي في الأُردن
12/10/2017 - 2:45pm

"محمدأمين" قاسم الناصر
إنَّ الاعتراف بالمُشكلة هو أوَّل خُطوات حلِّها. في الأُردن، لا نزال نستند إلى سياستي "الإنكار" و"العزو" في التعامل مع البحث العلمي؛ فنحن إمَّا نُنكر وجود مُشكلةٍ في البحث العلمي لدينا، أو أنَّنا حين نعترف بالمُشكلة –غالباً مُكرهين– نعزو سبب المُشكلة إلى مسألةٍ خارج حدود إمكانيَّاتنا. كلتا السياستين تؤديان إلى نتيجةٍ واحدةٍ تتمثَّل في وجوب التعايش مع المُشكلة. وإذا ما أردنا الشروع في حل المُشكلة بعد الاعتراف بها، فإنَّ ذلك يقتضي بالضَّرورة تشخيص المُشكلة لوضع الفرضيَّات المُلائمة للوصول إلى حلٍ علمي عملي قابلٍ للتطبيق.
قد يبدو للبعض وصف حالِ البحث العلمي في الأُردن بالمُعضلة مُبالغةً ممجوجة، لكنَّ الواقع مُغاير تماماً. إذا ما سلمنا بأنَّ جوهر البحث العلمي هو المنهجيَّة العلميَّة، عندئذ يُمكن لنا استيعاب أهميَّة هذه المنهجيَّة العلميَّة ليس فقط في إطار البحث العلمي، وإنَّما أثر انعكاس هذه المنهجيَّة على جوانب حياتنا المُختلفة وطريقة تعاطينا مع مُختلف الأمور السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والقانونيَّة، حتَّى في طريقة عيشنا وحياتنا الخاصَّة. وهنا تظهر أهميَّة البحث العلمي جليَّة، ويغدو وصفه بالمُعضلة مفهوماً أو مُبرراً على الأقل.
في إطار السعي لتشخيص مُعضلة البحث العلمي في الأُردن، غالباً ما يتبادر للذهن دور الأكاديميين والمُؤسسات الحاضنة لهم باعتبارهم المصدر الرئيس للبحث العلمي. وهذه الفرضيَّة يجب عدم التسليم بها قبل فحصها. فإذا ما نظرنا إلى تجارب دولٍ أُخرى رائدة في مجال البحث العلمي، وجدنا أنَّ أصول البحث العلمي تُزرع في طلبة المدارس مُنذ باكورة التحاقهم بها. بينما لا يتعرَّض طلبتنا لأصول البحث العلمي إلا في مراحل مُتقدِّمة في حياتهم الجامعيَّة، وغالباً ما يتحصلون على هذا النوع من المعرفة في دراساتهم العليا في الجامعات الغربيَّة. وبالتالي، فإنَّ ثقافة البحث العلمي لدينا غائبة إلا لدى القِلَّة ممن يُتابعون دراساتهم العليا في الخارج. وعليه، فإنَّ إصلاح سياساتنا التعليميَّة يجب أن لا يقتصر على المناهج وإنَّما يجب أن يتضمَّن إدخال المنهجيَّة العلميَّة والبحث العلمي كركيزةٍ أساسيَّةٍ في العمليَّة التعليميَّة. عندئذ، يُمكن لنا أن نفترض وجود جيلٍ قادرٍ على التعامل مع المُشكلات بصورةٍ علميَّةٍ ووضعُ الفرضيَّات العلميَّة المُختبرة علميَّاً، الأمر الذي ينعكس على التنمية بوجهٍ عامٍ وبجوانبها المُختلفة.
عودٌ على الأكاديميين والمُؤسسات الحاضنة لهم، تظهر مُشكلة من نوعٍ آخر. إنَّ الفاحص لتشريعات الجامعات الأُردنيَّة يلمس بشكلٍ مُباشرٍ فشلها في دعم البحث العلمي وتطويره، ذلك أنَّ هذه التشريعات تربط بين البحث العلمي والترقيات الأكاديميَّة. فبدلاً من أن يكون البحث العلمي هدفاً بحد ذاته، تُشجِّع التشريعات الجامعيَّة لتحويل البحث العلمي مُجرَّد وسيلة للترقيات الأكاديميَّة. فما أن يُرقى الأكاديمي لرتبة الأُستاذيَّة حتى يتوقَّف إنتاجه العلمي أو يكاد، وقلَّما نجد أكاديميين يستمرون في الإنتاج العلمي بعد وصولهم لأعلى سُلَّم الرتب الأكاديميَّة في جامعاتنا الأُردنيَّة. وهنا لا بُد من التركيز على شروط الترقية في جامعاتنا وفحصها والنظر للحكمة التشريعيَّة من وراء هذه الشروط. إنَّ أوَّل الشروط العقيمة للترقية في جامعاتنا الأُردنيَّة هو وضع مُدَّة زمنيَّة تتمثَّل غالباً في أربع أو خمس سنوات قبل التقدُّم لطلب الترقية. وإذا ما نُظِر لهذا الشرط الأوَّل مع الشرط الثاني والمُتمثِّل بعددٍ مُعيَّن من الأبحاث، يغدو جليَّاً أنَّ الأكاديمي سينصب اهتمامه على خدمة ترقيته وليس خدمة البحث العلمي. فضلاً عن قتل الحافز لديه لإنتاج عددٍ من الأبحاث يفوق العدد المطلوب للترقية، لأنَّ الإنتاج العلمي الزائد سيذهب سُدى، ولن يُعتمد للترقية القادمة. وفي إطار هذا الواقع المُنتشر في مؤسسات تعليمنا العالي، قد يبدو من الأجدر أن يُعتمد للترقية شرطٌ واحدٌ يتمثَّل في تقديم الأكاديمي لأبحاث علميَّة تُؤهله لشغل الرتبة المطلوب الترقية إليها، دون أن تُقيَّد الترقية بسنوات خدمة أو حصرها بعددٍ مُعيَّن من البحوث. هنا سينصب الجهد على تقديم مُستوى مُتقدِّم من البحث العلمي بدلاً من التركيز على مُتوالية عدديَّة عقيمة من سنوات خدمةٍ وكمٍّ مُعيَّن من الأبحاث.
إنَّ جانباً مُهماً من قصور البحث العلمي في الأُردن يتمثَّل في فشل الجامعات في تسليح طلبتها بأدوات البحث العلمي؛ إذ غالباً ما نرى أنَّ مواداً كمشروع البحث أو أساسيَّات البحث العلمي تُدرَّس مع نهايات الدراسة الجامعيَّة، في حين أنَّ من الأولى أن تتصدَّر هذه المواد الدراسة الجامعيَّة بمُختلف مراحلها بحيث يُمارس الطالب البحث العلمي طيلة وجوده على مقاعد الدرس بعد أن تعرَّف على أدواته وأساليبه العلميَّة في المرحلة التحضيريَّة لدراسته. ومن تعرَّض لتجارب الدول الغربيَّة في هذا المجال يُدرك تماماً أهميَّة هذه الخطوة، ذلك أنَّ من مُتطلَّبات بدء أي درجةٍ علميَّةٍ –لا سيما في الدراسات العليا– أن يأخذ الطالب دورةً تدريبيَّة إلزاميَّة مُتكاملة يُشكِّل البحث العلمي ونشره مِحوراً مُهمَّاً منها.
ومن تجربةٍ شخصيَّة في مجال التدريس الجامعي، لا بُد من الإشارة إلى أنَّ عوائق مُعيَّنة لا بُد من التعامل معها وحلِّها كأولويَّة وطنيَّة في مجال البحث العلمي. أوَّل هذه العوائق هو العائق اللغوي، إذ أنَّ مدارسنا تعجز عن تمكين الطلبة من اللغات الأجنبيَّة العالميَّة لا سيما الإنجليزيَّة، فبدلاً من إعادة إنتاج العجلة، يُمكن لباحثينا –إذا ما تمكَّنوا من اللغات العالميَّة– الاطلاع على أحدث ما توصلت عليه المعرفة (current state of the art) والبناء عليها، بدلاً من إعادة إنتاج المعارف السابقة، فيذهب الجهد هباءً منثوراً. فضلاً عن أنَّ قواعد البيانات العالميَّة إنَّما تكون بلغاتٍ غير العربيَّة، ما يجعل طلبتنا غير قادرين على التعامل معها. وهذا الحديث الأخير عن قواعد البيانات يستدعي نقاش مُشكلةٍ أُخرى هي عدم وجود قواعد بيانات للأبحاث العلميَّة باللغة العربيَّة، وإن وجدت فإنَّها غالباً ما تكون بحالة تقنيَّة مُترديَّة، وهذا يُؤدي بالتالي إلى صعوبة أو انعدام إمكانيَّة الوصول للأبحاث العلميَّة العربيَّة، وبالتالي تبقى حبيسة الأدراج وتُمسي نسياً منسياً. وإذا ما كان للتعليم العالي والبحث العلمي من مؤسساتٍ تراعاه، فإنَّ أولى أولويَّاتها يجب أن ينصب على بذل الجهد الصادق والتمويل اللازمين لإنشاء قواعد بيانات عربيَّة على مستوً تقني عالٍ لضمان أكبر قدر من الإطلاع (exposure) على الأبحاث العربيَّة.
لعل المقام في هذه البرهة لا يتسع للحديث مُطوَّلاً عن هموم البحث العلمي في الأُردن، لكن على من يقومون على هذا الأمر إدراك أهميَّته العلميَّة لا بل والاقتصاديَّة كذلك؛ فتجربة دولة مثل النمسا يجب أن تكون حاضرة في الذهن، فهي دولة تُشبه كثيراً واقعنا في الأردن من حيث عدد السكان وقلَّة الموارد الطبيعيَّة، إلا أنَّ الأبحاث العلميَّة –لا سيَّما إنتاجهم من براءات الاختراع– أثرى اقتصادهم بشكلٍ ملموس. فبدلاً من استجداء الدعم والمُساعدات، ربما يكون الحل في مواردنا البشريَّة وما فيها من طاقاتٍ بحثيَّة. وأخيراً، يبدو بديهيَّاً القول أنَّ الوقت قد حان لوضع البحث العلمي على طاولة البحث وإيلاءه الأولويَّة الوطنيَّة قَدْر ما يستحق.

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)