طلبة نيوز

أ‌.د. عبدالله الزعبي
فاطمة بنت محمد الفهري هي شخصية تاريخية خالدة في ذاكرة العرب. والدها هو محمد بن عبدالله الفهري، عربي من ذرية عقبة بن نافع الفهري القرشي فاتح تونس ومؤسس مدينة القيروان. انتقل أهلها، وهي فتاة صغيرة، من مدينة القيروان إلى أقصى المغرب ونزلوا في عدوة القرويين بفاس زمن حكم إدريس الثاني. توفي والدها ثم زوجها فورثت عنهما ثروة طائلة شاركتها فيه أخت لها أسمها مريم.
تشير الموسوعة الحرة ويكيبيديا بأن فاطمة الفهري رأت ضيق مسجد القرويين، الذي عرف بجامع الشرفاء أو الأشراف، بالمصلين، وكان أسسه إدريس الثاني سنة 193ه/808م، إلا أنه كان صغيرًا بسيطًا، فأحبت أن تخلد ذكرى والدها، فإعادت بناءه، وضاعفت من حجمه بشراء الحقل المحيط به، وبذلت مالاً كثيراً برغبة صادقة، وأقسمت على ألا تستعمل تراباً أو مواداً من غير الأرض التي اشترتها بحر مالها، وطلبت من العمال أن يحفروا الأرض حتى يستخرجوا من أعماقها الرمل الأصفر الجديد والأحجار والجص ليستخدموه في البناء. أشرفت بنفسها على حفر أساس المسجد وإقامه جدرانه، وظلت صائمة حتى اكتمل البناء في الأول من رمضان سنة 245ه/859م، فبدا المسجد في ازهى صورة وأجمل حال يشهد لفاطمة بالمهارة والحذق وكأنها عالمة بأمور البناء وأصول التشييد.
أصبح مسجد القرويين فيما بعد أكبر معهد ديني وأول جامعة تمنح الشهادات الأكاديمية في العالم، فكانت مركزاً للنشاط الفكري والثقافي والديني قرابة الألف سنة ولعبت دوراً رائداً في نشر العلم والمعرفة ليس في المغرب والعالم العربي فحسب وإنما في أوروبا. كما حرص أهل وحكام بلاد المغرب على رعاية الجامع إذ جرت توسعته في عهد دولة المرابطين التي حكمت المغرب في القرنين الخامس والسادس الهجريين، كما أضاف الأمراء الزنّاتيون (وهم قبائل وصفهم المؤرخ ابن خلدون بأنهم بناة مدن) المنارة المربعة التي تعد أقدم منارة في المغرب العربي وما تزال قائمة إلى اليوم. كما ساهم المعماريون بإضافة لمسات فنية للجامعة حيث لا تزال الثريا التي أضيفت في عهد دولة الموحدين تزينها إلى يومنا هذا.
كان يتوارد إلى جامعة القرويين الطلبة من بلاد العرب وأوروبا وكان العلماء يعكفون على المناظرات الفلسفية والأبحاث الدينية، وكان المثقفون يدرِّسون التاريخ والعلوم والطب والرياضيات، فدرس او تخرج فيها كثير من العلماء من مثل الفقيه المالكي أبو عمران الفاسي وابن البنا المراكشي وابن العربي وعمران بن موسى الفاسي وبابن البناء وابن باجة وابن خلدون ولسان الدين بن الخطيب، وابن عربي الحكيم وابن زهر والنحوي ابن آجروم. كما زارها الشريف الإدريسي ومكث فيها. أما من علماء أوروبا فدرس فيها سيلفستر الثاني (غربيرت دورياك)، الذي شغل منصب البابا في الفترة 999-1003م، ويقال أنه هو من أدخل بعد رجوعه إلى أوروبا الأعداد العربية. كما أن الطبيب والفيلسوف موسى بن ميمون زاول التدريس فيها لسنوات عدة.
تتألف الجامعة اليوم من عدد من الكليات هي كلية الشريعة وكلية اللغة العربية وكلية أصول الدين وفيها خمسة أحياء جامعية يحتوي كل منها على مكتبة ويصل مجموع المخطوطات والكتب الثمينة التي تضمها مكتبات الجامعة إلى أكثر من 45 ألف مخطوطة وكتاب. وتمنح الجامعة الدرجات الجامعية من مثل الشهادة الجامعية للدراسات الأدبية ودرجة البكالوريوس والدكتوراه ودكتوراه الدولة.
لقد كانت فاطمة الفهري إذاً أول من أسس جامعة في العالم وبهذا صنعت تاريخاً، ورسمت أسمها ناصعاً في سجلات الخالدين، وأسهمت إسهاماً هائلاً في تقدم البشرية. توفيت السيدة العربية العظيمة عام 265ه/878م وقال عنها ابن خلدون "فكأنما نبهت عزائم الملوك بعدها". ولعل في نموذجها القدوة رسالة لكل أولئك القائمين على التعليم في بلاد العرب من سياسيين وقادة رأي وأكادميين ورجال أعمال ونشطاء في الحياة العامة وكل من يعتز بعروبته، رسالة فصل بأن أسطورة التعليم في العالم الغربي سبقتها أخرى ما نزال نشهدها في القرويين وبيت الحكمة والزيتونة، في المأمون وفاطمة الفهري. إن فاطمة الفهري صرخة في وجه كل من يعتقد بأن جمع المال يصنع مجداً لأن إنفاقه الذي يفعل، وهي صدمة لكل من يظن أن الجاه يبني أمةً لأن العلم هو الذي يفعل. وإن لم تكن فاطمة الفهري نبهت عزائم الملوك والرجال بعدها فمن الذي يفعل؟ فأعظم وسيلة للعيش بشرف في هذا العالم، كما يقول سقراط، هو أن تكون ما تدعي أن تكون، وأن الانجازات العظيمة لا تأتي بها الأنانية وإنما تولدها التضحيات الجسام.