TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
حين يصعد المطر
26/01/2017 - 6:15am

طلبة نيوز-  د. ابتسام أبو محفوظ / جامعة القصيم 

 

 حين يصعد المطر   رواية "  الحزام "   واستحضار الواقع في أولياته 

في قريتي لا يسقط المطر كعادته بل يصعد ...
كل صباح نحن من نوقظ الشمس ...
يقول أبي أن الشمس ليست سوى أداة عمل في القرية ...
لا أذكر أنها غابت أبداً كان المطر يجيء في عز الشمس ...
التي تغسلنا كل صباح لتمنحنا قوى جديدة ...
يوماً ما روت لي أمي أن قريتنا كانت في البدء أغنية فريدة ...
تماماً كالشمس و القمر ...

هذه مقتطفات من رواية  " الحزام "  للروائي السعودي ( أحمد أبو  دهمان ) يختلط فيها  الواقع بالأسطورة .. أسطورة قرية آل خلف التي يعتز بها صاحبها وينتسب إليها لأن من يحفظ نسبه    يرفع صوته معلنا ذلك الولاء لروح القبيلة  وحجارة قرية تحمل أنفاسهم وعشقهم وشيئا من انكساراتهم وكل انتصاراتهم  تلك التي تخلق من كل رجل منهم سكينا يسكن قلبه وعقله ليمضي حادا في رواية  أقرب إلى  رواية السيرة الذاتية   ، فتجمع بين السيرة والرواية  إلا أنها تتمظهر في الشكل الروائي ، فكلا هما تتكئان على قصة شخصين    يحكي  كل منهما قصة  صدام ما مع الواقع ، ويجتمع كل منهما عبر السيرورة اللغوية  دون أن يتخليا عن عنصر الخيال  . 
في رواية " الحزام"   أراد دهمان أن يعيش حقيقته كفرد  وحقيقة قريته  الجنوبية  المغرقة في الجبال  من خلال البوح الذاتي لتكون ترجمة تاريخية   لسيرة  " آل خلف "  وترجمة لسيرته الذاتية  ، فحزام هو الأثر التاريخي  من ذاكرة القرية الذي  كانت شخصيته معادلا لحياة قرية تلاشت ملامحها على أرض الواقع وبدأت تتجسد روائيا ، بصورة رمزية مشتقة من الواقع ، إنها سيرة الأنا الممتزجة بسيرة قرية كان لا بد لها من أن تصبح محطة عابرة في طريقها من التقليدية نحو الحداثة  ، يهدينا فيها أبو دهمان نفسه ويقدم فيها ترجمة تاريخية لقريته . التي انتقلت إلى عالمها الجديد بفتح مدرسة لتكون حقلا ويكون بطلنا أكثر نباتاته اخضرارا  فيتلمس الكلمات يتذوقها  يداعبها يحس بتلك الطاقة التي تشعها لتأسر كل ما بداخله ليترك السكين لعالم القرية والقبيلة ويمتشق هو الكلمة لتمتلك روحه فيسافر فيها ويقرأ من خلالها عن كل أؤلئك الذين تخلدهم الكلمة فلا يموتون  ويكتب قصيدة تنطلق من رحم الأرض تتجذر كما هم    ... كالجذور ...  ، كما يعلمه  حزام ،  كيف تكون الكلمة كالرصاصة بل أكثر خطورة منها ،  لتأخذ القصيدة دور الماء في الحياة فتمنح الكائنات والأشياء لونها ، وتعطيها بريقها ، هذه هي فلسفة حزام الذي يؤسطر كل ما حوله ويمنحه بعضا  من ذاك الغموض الأسطوري المكثف في فهم ماهية الأشياء ، فيعيدنا إلى زمن البدايات ،  وكيف جاءت حقيقة ما إلى الوجود ،  قريته تلك  التي كانت أقرب  إلى السماء  فتتباهى بمكنوناتها ... كانت في البدء أغنية  فريدة تماما كالشمس والقمر ،  كل ما فيها وكل من فيها يقول الشعر: 
و أن الكلمات الشعرية تطير كالفراشات ...
و لأن قريتنا هي الأقرب إلى السماء ...
فإن هذه الكلمات الشعرية تجد في قريتنا المكان الأفضل ...
للتباهي بمكنوناتها ...
كلنا شعراء هكذا كانت تقول أمي : 
الأشجار النبات الزهور الصخور و الماء ...
إذ يكفي أن تصغي للأشياء لكي تسمعها تغني ...
هكذا قامت الحياة هنا منذ أن أستنبت أجدادنا أول الحقول ...
هنا يولد الأطفال وهم مبللون بالغناء ...
يمتزج بأجسادهم من الولادة إلى الموت ...
و هؤلاء الذين ندفنهم يتحولون إلى أغنيات داخل الأرض ...
في حلم يقظة ، في صباح لا أنساه
تحولت الحياة في القرية إلى قصيدة و الناس لا يتكلمون إلا شعراً ...
و يغنون بلا انقطاع ...
حتى البيوت أخذت في حلمي شكل القصائد المضاءة إلى الفجر
 يكفي أن تصغي إليها لتسمعها تشدو للشمس ، يكفي أن تسمع من كبارها  أساطير عن الشعراء الذين يلهمهم الجن  كيف تصبح  الكلمة قصيدة ،  وكيف تكون  كل امرأة شمسا  يخشى من احتراقه بنارها  ، وكيف  يصعد المطر  نحو السماء،  في كل ما فيها يرتبط بالواقع في أولياته ، يعود فيه الكاتب  إلى زمن مضى يستحضره في وعيه لحاضره ليتخطاه إلى الزمن الآخر .

.يمضي حزام معه يطلعه على كل وثائق القرية ليصبح حقلا لذاكرته وذاكرة للقرية   يمضي  عمرا ليواصل  الصعود إلى المدنية بحثا عن تاريخ  ميلاد حقيقي   في هوية شخصية ، ومتابعة دراسته في المدينة  هذا العالم الجديد  الذي قامت فيه كل مدينة على كنز جذب الناس إليه من كل صوب وحدب حتى إذا جاءه الناس نسوا الكنز وتعلقوا بها ، أي مدينة هذه التي تنسي الناس عقولهم وتفقدهم ألبابهم ؟؟ معبئين بالطاقة كل صباح .
كان ذلك الانفتاح على عالم المدينة  دعوة  للانفتاح على الآخر ،  ذلك الآخر الذي يتجاوز الحدود ، ولعل هذا ما أراده دهمان وما انطبق على سيرته الذاتية ، حيث تتفاعل تجاربه الشخصية الذهنية والوجدانية  لتنصهرا في بوتقة واحدة .   

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)