TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
النهضة العربية ... لماذا لم تثمر ؟
06/08/2017 - 2:15am

د.أحمد بطاح
إن من المتفق عليه أن العرب كأمة بدأوا يدخلون التاريخ منذ بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد رتّبوا بيتهم الداخلي ( الجزيرة العربية ) خلال حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفترة أبي بكر الصديق ، ثم إنطلقوا خلال حكم عمر بن الخطاب يفتحون البلدان المحيطة قاضين في سياق ذلك على أهم إمبراطوريتين في عصرهم وهما : الإمبراطورية الفارسية ، والإمبراطورية البيزنطية ، وقد بلغوا ذروة عزهم وعطائهم الحضاري خلال الدولة الأموية ثم الدولة العباسية ، ولا ننسى بالطبع الدولة الأموية في الأندلس التي تعلم منها الغرب الكثير .
ويمكن القول أن أفول الدور العربي بدأ مع نهاية حكم الخليفة العباسي المعتصم الذي إستعان بأخواله من الجند التركي فكان أن سيطروا لاحقاً على الحكم وأصبح الخليفة العوبة في أيديهم كما قال الشاعر
خليفة في قفص بين وصيفٍ وبغا
يقول ما قالا له كما تقول الببغا
وبقي الدور الحضاري والقيادي العربي شكلياً طول الحقب المتتالية وحتى نهاية الدولة العثمانية التي ضمت معظم الأقاليم ( الولايات العربية ) .
لقد بدأت الأمة العربية المشتّتة في أقطارها المختلفة تتململ مع بداية القرن التاسع عشر الذي شهد نشوء الحركات القومية في أوروبا وتبلور الدول الأوروبية على أساس قومي ( إنجلترا للإنجليز ، و فرنسا للفرنسيين) ، إذ بدأ الشعور العربي يظهر ، وبدأ كثيرون يتساءَلون لماذا نخضع للدولة العثمانية ؟ وبدأت تنظيمات وأحزاب عربية تظهر وتعمل للإنفصال عن الدولة ، ومما عزز هذه النزعة وأعطاها مبررها القوي هو ظلم العثمانيين وبروز جمعية الإتحاد الشرقي التي أرادت ( تتريك ) العرب وبقية القوميات التي عاشت مئات السنين في ظل الدولة العثمانية ، الأمر الذي تجلّى أخيراً في " الثورة العربية الكبرى " التي أطلقها الشريف الحسين بن علي عام 1916 متطلعاً إلى تأسيس دولة عربية بمعونة القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى .
إنّ التاريخ للنهضة العربية لا بد أن يأتي على دور مصر الطليعي في هذا السياق ، فقد حاول محمد علي باشا حاكم مصر ( رغم أنه لم يكن عربياً ) تأسيس دولة حديثة ، وقد نجح في ذلك إلى حد أنه أصبح يهدد السلطان العثماني نفسه ( رغم أنه كان يتبع الدولة العثمانية إسمياً ) وفي هذه المرحلة نقرأ أسماء رفاعة رفعت الطهطاوي ، وعلي مبارك وغيرهم ، وفي ذات الفترة تقريباً برز عدد من المتنورين والمثقفين في لبنان ( بحكم تواصله مع الغرب وبالذات فرنسا ) والذين كان لهم دور مميز في التعريف بالقومية العربية وإحياء اللغة العربية .
لقد تآمرت القوى الإستعمارية الكبرى ( بريطانيا وفرنسا ) لإجهاض النهضة العربية معتبرة الولايات العربية ليست أكثر من " غنائم " تكسبها كمحصلة للإنتصار على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ( 1914-1918 ) والواقع أن هذه القوى الإستعمارية لم تكتفِ بفرض نفسها بإسم الإنتداب عل الدول العربية ( معاهدة سايكس بيكو ) بل إتبعت ذلك بإصدار وعد بلفور (1917) الذي مهد لإنشاء دولة يهودية هي إسرائيل داقةً بذلك إسفيناً بين آسيا العربية وإفريقيا العربية .
ويمكن القول بأن عوامل النهضة قد بدأت بالظهور وبصورة بسيطة ومتنامية خلال فترة تأسيس الكيانات القطرية في العالم العربي ( 1920- 1945 تقريباً ) وبالرغم وجود الإستعمار الذي جثم على شعوب الأمة ، حيث بدأ التعليم يتزايد ، والوعي ينمو ، والأحزاب تتأسس والكل يتوجه إلى بناء كيان واحد للأمة الواحدة أيّ للأمة العربية .
إن النهضة العربية المأمولة بدأت في الظهور حقيقة وبشكل واحد بعد إستقلال معظم الدول العربية أيّ في منتصف الأربعينات ومع إنشاء الجامعة العربية ، وقد كانت النكبة الفلسطينية التي تمثلت في قيام إسرائيل
(1948) هي الصدمة القاسية التي عرّت الكيانات العربية وأظهرت أنها كيانات ضعيفة ، غير منظمة ، وغير ديموقراطية .
لقد كانت ردة الفعل على النكبة (1948) هي عدد الإنقلابات العسكرية ( بالذات في سوريا ) لتصويب الوضع ، ولكن الحدث الكبير الذي كان له ما بعده على صعيد النهضة العربية هو قيام ثورة يوليو (1952 والتي بدأت بإنقلاب عسكري ) في مصر بقيادة جمال عبد الناصر .
كان عبد الناصر ثورياً وصاحب مشروع نهضوي ليس على صعيد مصر فقط بل على صعيد الأمة العربية كلها ، وفي هذا السياق أنجزإجلاءالإنجليزعلى مصر (1954) ، وأمم قناة السويس ( 1956) ، وبنى السد العالي (1965) ، وحقق أول وحدة عربية في العصر الحديث بين سوريا ومصر ( الجمهورية العربية المتحدة ما بين 1958-1961) وحسم هوية مصر العربية ، وفي هذه المرحلة الذهبية ظهرت المواهب الكبيرة التي تجاوزت حدود مصر إلى تخوم العالم العربي كطه حسين ، وعباس محمود العقاد ، وأم كلثوم ، ومحمد عبد الوهاب ، وغيرهم من الأعلام الكبار ، غير أن هذه النهضة رزئت بنكسة كبرى في عام 1967 عندما قامت إسرائيل بهزيمة الجيوش العربية وإحتلت بقية أراضي فلسطين التاريخية والضفة الغربية وجولان وسيناء .
لقد كانت هزيمة 1967 صدمة كبرى للأمة . ( برغم أنها هزيمة عسكرية بالدرجة الأولى بدليل أن العرب ردوا عليها بحرب أكتوبر 1973 والتي كانت يفترض أن تنتهي بهزيمة نهائية لإسرائيل لولا التدخل الأمريكي المباشر ) ، وبالرغم من أن هذه الهزيمة كانت عسكرية بالدرجة الأولى كما أسلفنا إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أنها كانت هزيمة حضارية أيضاً ، فقد بينت أن هنالك خللاً في آليات الحكم ، وتخلف في كثير من الجوانب الإجتماعية والإقتصادية وغيرها ، ومن الجدير بالذكر أن وفاة القائد الثائر جمال عبد الناصر الذي حاول الإفادة من نتائج الهزيمة واستئناف مسيرة العمل الوطني القومي الوحدوي والتحرري جاءت بمثابة الضربة القاضية لآمال النهوض العربي فقد مثلت الفترة التي تلث وفاته ( 40 سنة تقريباً ) حالة ركود ونوع من الإستسلام للقوى الغربية بشكل عام والهيمنة الأمريكية بشكل خاص بل وإنتكست الأمور إلى ما هو أسوء من ذلك حيث بدأت ثورات الربيع العربي في عام 2011 واعدةً بتحقيق مستقبل بإسم للأمة ولكنّها تحولت بفعل عوامل ذاتية وأخرى خارجية لامجال للخوض فيها الآن إلى" حروب أهلية وتدمير ذاتي " ونفوذ إيراني يتغلغل في أكثر من أربع عواصم عربية ( بغداد ، دمشق ، بيروت ، صنعاء ) .
إنّ السؤال الكبير الذي تتصدى هذه المقالة للإجابة عليه هو : لماذا لم تثمر النهضة العربية التي بدأت بوادرها قبل قرنين تقريباً ؟
إنّ هناك جملة أسباب لا بدّ من الإشارة إليها في هذا الصدد وأهمها :
1- وقوف القوى الغربية الكبرى في وجه هذه النهضة لإدراكها أن هذه الأمة موجودة في أرض ذات موقع إستراتيجي ، وإنها إذا نهضت فإنها قد تشكل خطراً عليها ( لا ننسى أن معركة بلاط الشهداء كانت على بعد 80 ميل من باريس ، وأن حكم العرب في الأندلس ( جنوب إسبانيا ) إستمر لمدة (800 عام ) ، وبالرغم من أننا لا نظن أن نظرية المؤامرة تستطيع تفسير كل ما حصل ، إلّا أن من المؤكد أن هنالك سياسة غربية ثابتة – وإن لم تكن مدونة – تقضي بعدم السماح لأية قوة عربية بالظهور ، وقد حدث ذلك فعلاً عند محاولة محمد علي باشا ( برغم أنه لم يكن عربياً ) ، بناء مصر الحديثة ، وعند إطلاق مشروع عبد الناصر التحرري الوحدوي العربي ، وعند قيام صدام حسين ببناء قوة العراق كقوة إقليمية فاعلة .
2- عدم تبلور طبقات وشرائح إجتماعية عربية تؤمن بالديموقراطية كأسلوب حكم في العالم العربي ، الأمر الذي لم يمكن من إفراز أحزاب ممؤسسة تتبادل السلطة بشكل سلمي ، وتعمل على تطوير الحياة السياسية بصورة صحيحة ، والواقع أن هذا أدّى إلى أن يقوم ضباط عسكرين ( بحكم إن الجيوش هي المؤسسات الوحيدة المنظمة في الأقطار العربية بعد الأستقلال ) بالإستيلاء على الحكم ، وممارسة سلطات إستبدادية سرعان ما فشلت ليس على الصعيد المجتمعي فقط ، بل على صعيد حماية نفسها من الخطر الخارجي ، وللتوضيح هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإنقلاب (Cope) بالمفهوم السياسي هو تغيير في شخوص أصحاب السلطة . بينما الثورة (Revolution) هي تغيير جذري وعميق في بنية المجتمع ((Structure سياسياً وإقتصادياً وقيمياً .
وقد يقول قائل ماذا عن حزب البعث العربي الإشتراكي الذي حكم في قطرين عربيين متجاوريين مهمين هما سوريا والعراق ؟ والإجابة على هذا التساؤل بسيطة وهي آن الحزبين لم يحكما في الواقع وإنما حكمت الأجهزة العسكرية والإستخبارية في كلا البلدين والدليل على ذلك أنّ الزعماء التاريخيين للحزب إما قتلوا ( صلاح الدين البيطار ومنيف الرزاز ) وإمّا حيدوا ( ميشيل عفلق ) .
3- عدم وجود إتفاق على مرجعية النهضة المنشودة ، فهنالك من أرادها إسلامية كبعض المصلحين أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وحسن البنا وسيد قطب وغيرهم ، وهناك من أرادها ليبرالية غربية كطه حسين وسلامة موسى ورضوان السيد وغيرهم ، وهناك من أرادها إشتراكية كميشيل عفلق ، وقسطنطين زريق ، ومعن بشور ، وأحمد بهاء الدين ، ومحمد حسنين هيكل وغيرهم ، وإذا تذكرنا أن الإرث العربي الإسلامي لم يسعف في إنضاج آلية ديموقراطية للإختيار فقد كان هذا الغموض وهذه الضبابية المتعلقة بمرجعية النهضة سبباً مهماً في فقدان البوصلة وضياع الإتجاه .

نائب رئيس جمعية الأكاديميين الأردنيين

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)