TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
المواطنة الفاعلة في رؤية ملكية
25/09/2017 - 9:15pm

بقلم: د. محمد عطاالله الخليفات
لا شك أن المواطنة شأنها شأن الديمقراطية، فهي نتاج لصراعات وتوافقات، كما أنها نتاج لقيم مشتركة ومواجهات فكرية منسجمة أحياناً ومتعارضة أحياناً أخرى، بل أن البعض ذهب إلى القول أن فكرة المواطنة تظهر أكثر فأكثر، كلما واجه المجتمع تساؤلات حول وجوده وصيغة العقد الذي يقوم عليه، بل كلما تهددت وحدة الوطن، ووحدة الدولة. 
وخلال السنوات الأخيرة، ونظراً للظروف والمتغيرات التي عاشتها البلدان العربية في ظل أحداث الربيع العربي، حظي مفهوم "المواطنة" بقدر عال من الاهتمام والتداول بين مختلف الأوساط السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد لا نغالي إذ قلنا أنه غدا من أكثر المفاهيم والمصطلحات تداولاً على صعيد القاموس السياسي والحقوقي، وكذلك على صعيد التداول اللساني اليومي. الأمر الذي أدى في هذه الأثناء إلى تبلور مفاهيم ومعان عديدة للمواطنة، منها أن المواطنة هي عبارة عن "مجموعة من الحقوق المادية والمعنوية، والفردية والجماعية، تتكفل الدولة بصيانتها وتمكين المواطنين منها في مقابل مجموعة من الواجبات يسدي بعضها المواطنون، في شكل خدمات، تحت إشراف ومراقبة الأجهزة الإدارية للدولة". وهناك من عرفها على أنها هي العلاقة التي تنشأ بين الفرد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من حقوق وواجبات في تلك الدولة. ويعرف القطاونة المواطنة على أنها صفة تطلق على كل مواطن يتمتع بجنسية الوطن ويقر بدستوره، وهي تعكس طبيعة العلاقة بين المواطن والدولة، تلك العلاقة التي أساسها الانتماء والولاء والتكافل الاجتماعي.
ومن خلال هذه السياقات يمكن القول بأن المواطنة هي تلك العلاقة التي تنشأ بين الفرد والدولة التي يعيش في كنفها ويكن لها بالولاء والانتماء، وأساس هذه العلاقة أن تقوم الدولة بحماية مصالح الفرد وصيانة حقوقه، مقابل أداء الفرد لواجباته تجاه وطنه ومشاركته في بنائه والدفاع عنه. 
وإذا كانت فكرة التحول الديمقراطي، وتجذير الديمقراطية في الأردن، قد حازت على الأولوية القصوى في جهود الملك عبدالله الثاني الرامية إلى إحداث إصلاح شامل في المملكة يطال مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي جعلنا نصنف الديمقراطية بأنها المقوم الأول للدولة المدنية في الفكر الملكي، فإن "المواطنة الفاعلة" جاءت في المقام الثاني لهذه الدولة، ويظهر ذلك جلياً من خلال برامج العمل الإصلاحية التي لم يفتأ جلالته من تقديمها للنخب السياسية والحراكات الشعبية والشبابية، سواء من خلال كتب التكليف السامي للحكومات، أو من خلال خطابات جلالته على المنابر المحلية والإقليمية والدولية، أو من خلال أوراقه النقاشية.
فقد ظهر التركيز الملكي على ترسيخ قيم ومبادئ المواطنة الفاعلة باعتبارها أحد مقومات الدولة المدنية الحديثة، واضحاً في رؤيته الإصلاحية لأردن المستقبل الذي ننشد، وذلك جنباً إلى جنب باهتمامه بترسيخ مبادئ الديمقراطية، إيماناً منه بأن للمواطنين حقوق يجب أن يتمتعوا بها، مقابل أن عليهم واجبات يجب أن يؤدونها، بغض النظر عن جنسهم رجالاً أو نساء، أو عقيدتهم أو فكرهم، وهذا ما أكده جلالته في خطابه بمناسبة احتفالات المملكة بذكرى الثورة العربية الكبرى ويوم الجيش وعيد الجلوس الملكي في حزيران 2011م، عندما قال: "لا بد من الاتفاق على أن الشعور والقناعة بالانتماء لهذا الوطن هو الذي يحدد الهوية الوطنية للإنسان، ويحدد حقوق المواطنة وواجباتها، بغض النظر عن خصوصية المنابت والأصول، أو المعتقدات الدينية، أو التوجهات الفكرية والسياسية .. فنحن جميعاً على هذه الأرض الطاهرة، أسرة واحدة، مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات". ولم تكد تمض سنتين على خطاب جلالته هذا، حتى ترسخت لدى الأردنيين جميعاً بفعل مشاريع الإصلاح الوطنية الكبيرة والواسعة التي تبناها الأردن، ممارسات "المواطنة الفاعلة"، وهذا ما أشار له جلالته في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة العادية الأولى لمجلس الأمة السابع عشر عام 2013م، بقوله أن من ضمن الإنجازات التي حققها الأردنيون مؤخراً "ترسيخ ممارسات المواطنة الفاعلة".
والمواطنة الفاعلة، هي في الواقع لصيقة بالدولة المدنية، فلا دولة مدنية بدون مواطنة، ولا مواطنة بدون دولة مدنية، وعليه فإذا كنا كأردنيين حريصين على ترسيخ ممارسات المواطنة الفاعلة ، فإن هذه المواطنة لا تتحقق إلا في دولة مدنية ديمقراطية تعددية دستورية، تصون كرامة المواطن وقناعاته في ممارسة معتقداته وأفكاره بالشكل الذي يؤمن به في إطار سيادة القانون.
هذا وقد دفع جلالة الملك عبدالله الثاني من خلال أوراقه النقاشية الثالثة والرابعة بمفهوم أمثل للمواطنة الفاعلة، قوامه أن المواطنة ليست ولاءً عاطفياً وانتماءً للوطن فحسب، بل هي انتظام عام له محدداته وأبعاده في حياة الناس، تمتد إلى حقيقة المساواة في الحقوق والواجبات، وإعلاء قيم الحرية والهوية الوطنية الواحدة، منوهاً جلالته أن للمواطنة الفاعلة دور محوري في المجتمع الديمقراطي الذي يسير إليه الأردنيون، وهذا ما يتطلب من جميع الأردنيين المبادرة للمشاركة في قضايا مجتمعهم بالرأي والفكرة والكتابة والاعتراض، بشكل بناء بعيداً عن التشكيك والرفض لذاته فقط. ويرى جلالته أن مشاركة المواطن الأردني في الشأن السياسي لا تكون ذات أثر ايجابي إلا إذا كان يؤمن بـ "المواطنة الفاعلة"، التي ترتكز هنا على ثلاثة أسس، وهي: حق المشاركة، وواجب المشاركة، ومسؤولية المشاركة. 
وتكمن أهمية المواطنة الفاعلة كمقوم أساسي من مقومات الدولة المدنية الديمقراطية في أنها تساهم في تطوير المجتمع والارتقاء بالدولة، كما أنها تحول دون وقوع الخلافات ومظاهر الاختلاف بين مكونات المجتمع، وتحفظ للمواطن حقوقه، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى رفع مستوى الثقة بين المواطن والدولة، إضافة إلى أنها تضمن المساواة والعدل بين المواطنين أمام القانون.
ولعل من أهم مقومات وشروط " المواطنة الفاعلة" التي لم ينفك جلالة الملك عبدالله الثاني من التأكيد عليها عند كل حديث له عن الإصلاح السياسي المنشود في المملكة، ما يلي:
1. المشاركة الفاعلة في الحياة العامة: وتتمثل في المشاركة في الأحداث العامة مثل حق التصويت في الانتخابات العامة، والحق في الضغط السلمي على الحكومة أو الاحتجاج السلمي، وهذا ما يدعو له جلالته بقوله "المعارضة البناءة والحراك الايجابي طموح مشروع ومطلوب". هذا إلى جانب المشاركة المسؤولة في الحياة المدنية من خلال تقديم الآراء والأفكار والحلول المقترحة لمواجهة هموم ومشاكل المواطن والوطن، يقول جلالته "فانخراط المواطنين في الحياة العامة ضروري من أجل تطوير نظام الأحزاب السياسية الفاعلة الذي نحتاجه، كما أن المواطنين هم أصحاب القول الفصل في اخضاع الحكومات للمساءلة، وذلك من خلال أصواتهم الانتخابية".
2. المساواة: فالمواطنة الفاعلة لا يمكن احلالها إلا بضمان العدل والمساواة والانصاف بين المواطنين أمام القانون، وأمام الوظائف العامة والمناصب في الدولة، وأمام توزيع الثروات العامة، وأمام الحقوق والواجبات، وكذلك أمام المشاركة في المسؤوليات، وهذا ما نوه له جلالته مراراً وتكراراً، محذراً من أن الشعور بغياب العدالة والمساواة وعدم تكافؤ الفرص، يؤدي إلى انعدام ثقة المواطن بمؤسسات الدولة، والحل لهذه الظاهرة من المنظور الملكي هو تحقيق العدالة في توزيع مكتسبات التنمية في كل المحافظات، ومعالجة مشكلة الفقر والبطالة، وترسيخ الحاكمية الرشيدة للدولة، وتطوير السياسات الاقتصادية والاجتماعية بالمشاركة مع القواعد الشعبية.
3. الولاء والانتماء للوطن: الولاء والانتماء هما مجموعة المشاعر التي تجعل المواطن يعمل بحماس واخلاص للإرتقاء بوطنه والدفاع عنه وعن مكتسباته، ومن مقتضياته أن يعتز ويفتخر الفرد بوطنه وبقيادته. والولاء والانتماء لا يكون فقط بالكلام والتنظير والشعارات، وإنما يجب أن يتخطى ذلك إلى العمل الدؤوب في خدمة الوطن، سواء أكان الفرد في موضع المسؤولية أو خارجه. وهنا يتعجب جلالته من أولئك الذين يبدأون بنقد سياسات الدولة وقراراتها بمجرد تركهم موضع المسؤولية، فيقول "يعني لما يكونوا في موقع المسؤولين كل شيء صحيح وعال العال، ولما يكونوا خارج مواقع المسؤولية، كل شيء غلط، والدنيا خربانه".
4. البعد عن الخلاف والاختلاف، والفرقة والافتراق: وهذا المقوم يعتبر من أهم مقومات المواطنة الفاعلة في نظر جلالته، وذلك لأن الخلاف والفرقة من الأمور الخطيرة المسببة للفتنة، وتقسيم المجتمع إلى أنصار وأعداء، وموالاة ومعارضة، كما أنها من أسباب زعزعة أمن واستقرار الوطن، يقول جلالته " علينا جميعاً بالمحصلة أن نعمل بشكل جماعي .. وتشجيع الحوار الهادف والبناء بين المواطنين، والمحافظة على استقرار الوطن وأمنه ومنجزاته".
وعلى ذلك تعد المواطنة الفاعلة وفقاً للرؤى الملكية، مكوناً أساسياً في بنيان الدولة الديمقراطية المدنية، لما لها من دور فاعل في التغلب على الانقسامات الطائفية والعشائرية في المجتمع، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن المواطنة الفاعلة لا تأتي أكلها إلا إذا توفرت لها الضمانات الحافظة، ولعل أهمها سيادة القانون، وتحقيق العدل والمساواة، وضمان الحقوق والحريات العامة دستورياً وقانونياً، وترسيخ مبادئ التعددية السياسية والحزبية. وذلك أنه متى توفرت الضمانات وساد التفاهم والاحترام، التزم المواطن بمواقفه تجاه الدولة، ومن هنا تتعمق قوة الإرادة الوطنية لديه وفي مقدمتها الحفاظ على سيادة الوطن واستقلاله، والاعتزاز به، والحفاظ عليه والعمل على رفعته. 

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)