TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
المناهج بين التطوير والتأطير
27/11/2016 - 8:45pm

المناهج بين التطوير والتأطير

طلبة نيوز

د. سميح كراسنه

تعد المناهج التربوية من أهم أدوات تحقيق الغايات التي يرسمها صناع القرار ومخططو السياسات في أي بيئة لبناء المنظومة الإدراكية والأدائية والوجدانية الاستراتيجية الشاملة والمستدامة القادرة على تحقيق الهدف المنشود في كافة مفاصل الحياة، ومختلف قطاعات الدولة، فهذه عقيدة الدول النابضة بالحياة والأمل الصادق لمستقبل منتج لأجيالها. ولعل ذلك يتم بواسطة الأيادي الوطنية الشريفة المخلصة لأفراد أي مجتمع من أجل الحفاظ على هويتهم الوطنية وخصوصياتهم الثقافية بكل مكوناتها العامة والخاصة في عالم يتسم بالسرعة والتغيير والتلون المستمر والصراعات التي ربما توصف بالوجودية.
ولا يختلف اثنان على أن عملية تطوير المناهج ومراجعتها مطلب أساسي، وجهد علمي وإنساني وأخلاقي ووطني مسؤول، وقرار حكيم ومستمر للقائمين على أي نظام تربوي، وحاجة مجتمعية ملحة، وعملية معقدة وبالغة الأهمية والحساسية. ولكن يبقى السؤال المهم: ما الذي يتم تطويره وتغييره في المناهج!! حقيقة مهما كانت طبيعة التغييرات التكنولوجية، ومهما بلغت الحاجة إليها في ظل المفاهيم العالمية المتجددة ومتطلبات ما يسمى بعصر العولمة والرقمية، تبقى نقاط الارتكاز والمحاور الثابتة التي يعتمد عليها -ولا على غيرها-مطورو المناهج والعاملون على التغيير هي: قيم المجتمع وثوابته الضاربة جذورها في عقيدته وتاريخه وإرثه الثقافي والاجتماعي والأخلاقي المتفرد والمتميز. فالقيم هي عصب المناهج والدماء التي تجري في عروقها، والمناهج هي التي تخدم القيم والثوابت وتحميها، لا العكس!!!. وبذلك فتطوير المناهج في أي بيئة لا يكون بتغيير نص بنص، ولا اسم باسم، ولا صورة بصورة، ولا ألفية بنبطية، لأنه من المفترض أن لكل خبرة أو مصدر تعلمي في المنهج مؤشر قيمي يسهم في تعزيز المنظومة القيمية الشاملة. وهذا يؤكد أن مطوري المناهج قد بنوا المناهج على منظومة قيم شاملة ومتتابعة توزع على مراحل التعليم المختلفة، ومتكاملة - بمفهومي التكامل والدمج في المناهج- . ولذلك فمن حق أي فرد في أي مجتمع أو من يمثله من أعيان ونواب أن يسأل أصحاب القرار التربوي في بلده عددا من الأسئلة، منها: ما هي القيم التي قامت عليها مناهجنا؟ وما هي مصادرها؟ ما هي الثقافة التي ستشكل ملامح شخصية أبنائنا؟ كيف تم توزيع كل ما سبق على مراحل التعليم؟ كيف تم تقديم القيم (أو تضمينها) لأبنائنا في المناهج وأدواته والتي من أهمها الكتاب وما فيه من مصادر تعلمية فرعية هامة وحساسة؟ كيف نضمن متابعتها وتقييمها؟ هذه أسئلة، وأسئلة كثيرة حول التطوير والقيم تطرح على المسؤول. وهو بدوره ومن منطلق واجبه المهني والأخلاقي والاجتماعي والوطني عليه أن يكون واضحا في الإجابة والتعريف بكل صدق وأمانة وشفافية ونزاهة واعتزاز بكيفية تجسيد التطوير ليخدم القيم، وأن يظهر لمجتمعه وأمته كيف تم تجسيد القيم في المناهج الدراسية المطورة بكل مكونات المناهج، إضافة إلى إجراءات ومعايير التغيير في الأدوات والاستراتيجيات التي تم من خلالها تطوير المناهج، بحيث يمكن حصر تغير طبيعة أدوار ومكونات الشخصية المقصودة للمتعلمين بكل استقامة ووضوح. مع ضرورة التوضيح لآليات حسر أي مجال لتعلمات مصاحبة غير مقصودة في المناهج، ربما تضر بمنظومة القيم، حيث لا يتغلب فيها المنهج الخفي على المنهج المعلن(الرسمي). فكلما كانت التوقعات إيجابية وواضحة للتعلم المصاحب غير المقصود كبيرة، كلما حقق المنهج الرسمي الغايات بشكل أفضل، وعلى سبيل المثال فالكتاب المدرسي الذي يمتلكه الطالب ويطلع عليه الأهل بما فيه من مفاهيم ومبادئ وحقائق وقوانين ونظريات لأي بناء معرفي، أو أماكن وشخصيات، وصور، ونصوص ونشاطات أو تدريبات وروابط إلكترونية، يجب أن يكون واضح الأثر والتأثير، والغايات والنتاجات، بل إن احتمالات الخطأ في غالبيتها متوقعة ولا أثر سلبي حقيقي يذكر منها على المتعلمين. عندها ....لا يمكن لعاقل أن يعارض التطوير والتغيير، فهذا التطوير هو الذي يُحصّن أبناء المجتمع، وقيمه وعاداته وتقاليده الراقية الرائعة، تلك التي تشكل ضوابط سلوك الأبناء من الانحراف والتطرف والتهور والتدهور، والفوضى والعشوائية والانحطاط، فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
فتطوير المناهج يؤدي إلى بناء شخصيات متفاعلة مع تغيرات العصر بكل إيجابية، لا عابثة بأدواته المفتقرة للمضامين الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية. فإن كان من المناهج عكس ذلك، عندها يكون هذا تأطيراً (Indoctrination ) لا تطويراً، تأطير أحادي التوجه والتوجيه، أحادي الاعتقاد والاتباع لمعتقدات وآراء وأفكار ومفهومات غريبة عن الثقافة الأصلية الأصيلة، أو سطحية ضيقة، تبني شخصيات جيل ضحلة هزيلة مفرغة من الوجدان النابض بالعزة والكرامة، هينة النفس، ضعيفة الحجة، شحيحة الفكر الساطع بالآدب والثقافة، أو شخصيات هشة سهلة الانجراف والانحراف، همها كلاسيكو الأرض، وصرعات الألبسة وقصات الشعر، والإصدارات الحديثة من الآيفون والجلاكسي وغيرها ، وجلسات الأرجيلة لنور الفجر على أنغام: خذني بحنانك خذني ؟؟!!!!!!.. جيل لا يعرف الحدود ولا القيود، ولا يعرف الصديق من العدو اللدود، ولا يعرف القريب من الغريب، ولا يعرف الماضي من الحاضر. جيل تبدلت قلوبهم بغير القلوب، وجلودهم بغير الجلود. إن ما تغرسه المناهج في مكنونات الشخصية من ثوابت، وفي مكوناتها من فكر ومعارف لا تستطيع أعتى قوى الأرض زحزحتها أو تحريكها أو التأثير فيها بجرها إلى غير مجرتها الحقيقية. فالكل مع التأطير الذي يراعي الأصالة والعراقة والتاريخ والقيم ويرعاها، ويتقبل المعاصرة والتكنولوجيا ويتعايش معها بكل ثبات واقتدار من غير ضرر بالأصول والثوابت ولا ضرار. فخطورة العبث في المناهج بحجة التطوير في أي بقعة من الأرض كخطورة عملية قلب مفتوح لرجل انخفض ضغطه، وارتفعت حرارته، وأصيب بفشل كلوي، مع نزيف حاد في الدماغ.....
حفظ الله الأوطان من مرضى النفوس، ومشوهي العقول، ومن كل متربص متخلف مجنون ومهووس، لا يعرف الحق والحقيقة من الخبيث والمدسوس، ولا يعرف العلا من الدنا... وحمى الله الأجيال من كل انجراف وانحراف....... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأستاذ الدكتور سميح الكراسنة
المناهج والتدريس
جامعة اليرموك

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)