TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
القّيم في عصر التكنولوجيا
19/08/2017 - 10:15am

د. أحمد بطّاح
تُعّد القيم موجهات للسلوك الانساني , فالواقع أنّ الانسان لا يسلك في أيّ مجال من مجالات الحياة إلا إذا كانت هناك قيم تدفعه الى هذا السلوك, وكل فرد كما هو معروف لديه ما يُسمى النظام القيمي (Value System) الذي يوّجه سلوكاته في مناحي الحياة المختلفة ولعلّ من المعروف ايضآ ان النظام القيمي للفرد هو جزء من المنظومة القيمية للمجتمع وان كان هذا لا ينفي بالطبع أن الفرد يختلف في بعض مفرداته القيمية عن بقية افراد المجتمع الذي يعيش فيه على ان التوافق القيمي بين الفرد والمجتمع هو متطلب أساسي لتكيف الفرد و سعادته.
ومن الجدير بالذكر أن الفئة لذي يمكن أن تختلف في منظومتها القيمية عن بقية أفراد المجتمع ولا يؤثر ذلك على رضاها وسعادتها ( رغم أنه يؤثر سلبآ على تكيفها ) هي فئة الفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين والمبدعين فهؤلاء يطوّرون في الواقع منظومات قيمية مختلفة عمّا يطّوره عامة الناس, بل يؤمنون بأن النظم القيمية المجتمعية السائدة هي نظم بالية لا بّد من الثورة عليها واستبدالها.
واذا كانت المنظومات القيمية للأفراد متصلة حكماً كما اشرنا آنفاً بالمنظومات القيمية للمجتمع فانها بالتأكيد متصلة بطبيعة العصر الذي يعيش فيه المجتمع, واذا صنفّنا المجتمعات البشرية تاريخيآ الى مجتمعات زراعية وصناعية وتكنولوجة على التوالي فإننا يمكن أن نقول بثقة بأن قيم المجتمعات الزراعية كانت مختلفة عن قيم المجتمعات الصناعية , وهذه الأخرى مختلفة عن قيم المجتمعات التكنولوجية إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أنّه ما زالت هناك مجتمعات زراعية وهناك بالتأكيد مجتمعات تكنولوجية بل علينا القول بأن هناك بعض المجتمعات الضخمة المعقدة (كالصين مثلاً) التي لا زالت تشتمل على مظاهر العصور كافة : الزراعية والصناعية والتكنولوجية, وما يترتب على ذلك بالطبع هو وجود منظومات قيمية متداخلة تعّبر عن طبيعة العصور المشار إليها سابقآ. وقبل أن نخوض في موضوع هذه المقالة وهي قيم عصر التكنولوجيا لا بدّ من تحديد طبيعة هذا العصر.
يمكن تعريف التكنولوجيا ببساطة أنها العلم مُطبقآ, وهذا يعني أن التكنولوجيا هي توظيف للعلم بحيث يحوّل في نظرياته ومعادلاته الى مخترعات ومبتكرات وأجهزة كالطائرة, والسيارة, والحاسوب, والهاتف النّقال ومئات بل آلاف غيرها.
وقد يسأل سائل : إذن ما الفرق بين عصر الصناعة وعصر التكنولوجيا, ألم يكن عصر الصناعة ترجمة لمعرفة علمية ونظريات ومعادلات علمية لمخترعات صناعية مختلفة؟
الإجابة على هذا التسأول هي بنعم ولكن مع ملاحظة أن عصر الصناعة ظل معنيآ بتطور العلم من أجل العلم إلى جانب إعتنائه بالمبتكرات الصناعية , أما عصر التكنولوجيا فقد أصبح تركيزه كاملآ او شبه كامل على المخترعات بأشكالها المختلفة , ومع ملاحظة أن عصر التكنولوجيا بلغ آفاقآ هائلة إستحق معها أن يتميز وذلك بوصوله الى مرحلة ما يُسمى بالتكنلوجيا العالية Hi-Tech ) ) والتي تعتبر بحق نقلة في تاريخ البشرية والمُعبر عنها بالشبكة العنكبوتية (الانترنت), والحواسيب العملاقة وغيرها, ومن الواضح أن الدول الثرية التي تمتلك هذه التكنولوجيا كالولايات المتحدة, وبريطانيا, ووفرنسا, وروسيا, وكندا, فضلآ عن بعض الدول الشرقية ( بالمعنى الحضاري للكلمة ) كالصين, واليابان, وإلى حدٍ ما الهند .
والأن نتصدى للإجابة عن السؤال المحوري في هذه المقالة وهو : ما القيم الشائعة في عصر التكنولوجيا؟
إنّها كثيرة بالطبع ولعلّ أكثرها تمييزاً لعصر (التكونلوجيا ) هي ما يلي :
أولأ : القيم البرجماتية أيّ العملية أو النفعية بتعبير فيلسوف البرجماتية جون ديوي, ومفادها أن كل ما هو مفيد جيّد وبغض النظر عن مضمونه الأخلاقي .
إن مجتمع التكنولوجيا لا يتوقّف كثيرآ عند المعايير الأخلاقية للتصرفات والأفعال الإنسانية, بل يركز على الجانب العملي التطبيقي , أيّ على المحصلة العملية للفكرة وليس جمالية الفكرة أو مضمونها الأخلاقي.
ثانيآ : البعد عن التكنولوجيا .
لقد كانت العصور الماضية عصورالايديولوجيات وبالذات عصر الصناعة, أما عصر التكنولوجيا فقد تجاوز الايديولوجيات ولم يعد يعبأ بها , فهو مشغول بتحويل الأفكار والخيالات العلمية إلى مخترعات وأجهزة تيسر حياة الانسان وتجعله أقدر على إمتلاك مصيره والاسّتمتاع بوقت فراغه , وفيما يتعلق بالأديان فإنّ الملاحظ أن عصر التكنولوجيا لم يعد يركز عليها معتبراً أن العلم هو دين العصر, وأن العلم كفيل بتقديم الإجابات الضرورية عن تساؤلات الإنسان المعاصر, وقلقه, وتوجسه .
ثالثآ : تكريس قيم المجتمع الاستهلاكي :
لقد كانت المجتمعات الصناعية مجتمعات استهلاكية بحدٍ ما, ولكنها مع تنامي المخترعات التكنولوجية وتوالدها المستمر أصبح الفرد مضطرآ إلى مواكبتها وتوظيفها الأمر ألذي جعل مجتمع التكنولوجيا مجتمعاً استهلاكياً بامتياز, وعلى سبيل المثال لا الحصر كان يتم إستبدال السيارات والحواسيب والهواتف بين فترات متباعدة, ولكنه وبشكل متزايد يتم الآن بين فترات متقاربة جدآ فالتكنولوجيا تتوالد باستمرار والمستهلك يجد نفسه لاهثاً وراءها وبخاصة أنها تزوده باستمرار بما هو جديد ومثير.
رابعآ : قيم الأسرة النووية
لقد شهد عصر الصناعة إنتقال الأسرة من دور الأسرة الممتدة إلى دور الأسرة النووية, أي الأسرة الصغيرة المكونة من الأب والأم وأبنائهم وعادة ما يكونون قليلي العدد, ولكن عصر التكنولوجيا يفرض وبشكل متزايد تبني مفهوم الأسرة النووية, الأمر الذي يفرض حكمآ التركيز على قيم الفردية, والبحث عن السعادة الأحادية وعدم الاهتمام بالروابط الإجتماعة, الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى التركيز على الهم الفردي بدلاً من الهم الجماعي .
خامسآ : اللاأبالية السياسية :
لقد شهد عصر الصناعة بروز الأيديولوجيات وغيرها في المجتمعات وبالذات الصناعية منها, أما عصر التكنولوجيا فقد خلق نوعآ من الللامبالاة بالايديولوجيات وبالسياسة التي قد تنجم منها, ولذا لا عجب أن نرى كثيرآ من المواطنين في المجتمعات التكنولوجية لا يعبأون بالسياسة, وقلما ينخرطون في المؤسسات والأحزاب السياسية, بل وفي كثير من الأحيان لا يذهبون إلى صناديق الإقتراع للمساهمة في صنع مصير بلادهم، إن ذلك راجع بالطبع ليس إلى عدم أهمية السياسة ودور الأحزاب السياسية في صنع مصير البلاد والجماهير بقدر ما هو راجع إلى إنشغالات الفرد قي عصر التكنولوجيا بالمبتكرات التكنولوجية التي تيسر حياته وتعطيها معنى لا توفره السياسة وهمومها .
ولعلّ ما يجب أن يضاف أخيرآ عن القيم في عصر التكنولوجيا هو أن قّيم هذا العصر متغيرة مثل ما هو العصر نفسه, فهي ليست وليدة فلسفة راسخة متأصلة جرى التفكير فيها وتبنيها عن قناعة, وهي منبثقة من وضع مادي قائم ومكين، بل هي مستمدة من توالد مستمر ومتسارع ولا ينتظر أحداً.
إلى أين ؟ لا أحد يمتلك الأجابة القاطعة .

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)