TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
الغرب بين الحضارة والسياسة
08/07/2017 - 9:15pm

د.أحمد بطاح

إنّ مما لا شك فيه أن الغرب يقود الحضارة الانسانية منذ عصر التنوير(Enlightment) والثورة الصناعية مع بداية القرن السادس عشر، وحين نقول الغرب فإنما يعني الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا، أيّ تلك الشعوب التي تنتمي إلى الثقافة الهيلينية ( الاغريقية - الرومانية)، وحين نقول الحضارة فإنما نعني كل ما يبدعه عقل الانسان ويده من منتجات مادية أو معنوية.
ولكن – هل كان هناك إتساق بين مسيرة الغرب الحضارية ومسيرته السياسية؟ وبمعنى آخر فإن الغرب أتحف العالم بالمبتكرات، و المخترعات، والاضافات الثقافية الحقيقية ذات القيمة، وتجليات ذلك واضحة فيما ينعم به العالم كله الآن من طائرات، وسيارات، وأجهزة حاسوب، وتلفونات محمولة ذكية وغير ذلك كثير مما يصعب حصره، وتجلياته كذلك تتبدّى بوضوح فيما قدمه فولتير، ومونتسكيو، وجان جاك روسو، وماركس، وفرويد، ونيوتن،وأديسون، وجوتنبرغ،وجراهام بل، وبل جيتس وغيرهم كثير كثير.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل كان الأداء السياسي للغرب متسقاً مع الأداء الحضاري العام؟ وبعبارة أخرى: هل قدم الغرب للإنسانية السلام والأمن والاستقرار كما قدم لها المخترعات والتكنولوجيا المتقدمة والنظريات العظيمة في مجالات السياسة، والفن، والعلم، والأدب؟
إن الإجابة على السؤال السابق هو بالسلب طبعاً، فالدول الأوروبية التي خرجت قوية بعد الثورة الصناعية ( وبالذات بريطانيا وفرنسا ) جنحت الى استعمار الدول الصغيرة والضعيفة واستنزاف مواردها، وبسبب الاطماع الاستعمارية والصراع على النفوذ خاضت الدول الأوروبية حربين عالميتين رهيبتين كلفتا البشرية أكثر من مائة ( 100) مليون إنسان. صحيح أن هاتين الحربين شملتا بعض الدول الشرقية (بالمعنى الحضاري) كاليابان والدولة العثمانية ولكن الواقع هو أن هذه الدول إنجرت الى الحرب بسبب تحالفات الدول الغربية واستقطاباتها الكونية، وبالطبع حفاظاً على مصالحها الذاتية التي يمكن أن تُضار إذا لم تنتظم في الاحلاف الدولية.
والواقع أنه حتى مع أفول عصر الاستعمار مع منتصف القرن العشرين، فإن الدول الغربية ظلت تمارس نفوذاً سلبياً في معظم الأحيان على الدول النامية والصغيرة فقد استبدلت آليات نفوذها التقليدية ( الجيوش والأساطيل ) بآليات نفوذ جديدة ( اقتصادية في الغالب كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي واتفاقية التجارة العالمية الجات ) فضلاً عن وسائل المواصلات والاتصالات لكي تمارس هيمنة غير مسبوقة على مقدرات دول العالم الثالث.
إنّ الحقيقة الواضحة التي يمكن إستشفافها من العرض السابق هو أن الغرب لا يتصرف مستنداً إلى مصالحه الذاتية، فالحضارة كما هو معروف تقوم على الثقافة والتعليم والأخلاق أمّا السياسة فتقوم على المصلحة أي مصلحة الدولة، ولذا لا غرابة في إننا سنجد بعض الدول الغربية تُعتبر إنموذجاً في الديموقراطية ولكنها – وفي نفس الوقت – تمارس دوراً استعمارياً ( مباشراً أو غير مباشر ) لا ينسجم البتة مع قيم الديموقراطية، وحقوق الشعوب في الاستقلال ، والحرية، وتقرير المصير،فضلاً عن حقوق الانسان .
وقد يقول قائل : هل يتفرد الغرب بهذا الانفصام ( بين الحضارة والسياسة ) عن غيره من الحضارات السابقة ( المصرية القديمة، الفارسية،الرومانية، العربية الاسلامية...).
إنّ الإجابة المنصفة على التساؤل السابق هي "لا"، فالواقع أنّ الأمم السابقة التي امتلكت زمام القوة والنفوذ تصرفت بنفس الأسلوب، حيث كانت لها مبادؤها وقيمها داخل مجتمعاتها، وكانت لها "سياساتها" عندما يتعلق الأمر بالشعوب والبلدان التي حكمتها، وإن كان الأمر يتفاوت بالطبع من أمة إلى أخرى، ومن حضارة إلى أخرى بفعل محددات الأزمات والظروف.
وإذن فهل يحق لنا أن نلوم الغرب على هذا الانفصام، أو هذه الازدواجية بين "حضارته" و "سياسته" ؟
إنّ لوم الغرب جزئياً أمرٌ مبرّر من وجهة نظري ولسبب بسيط هو أنّ الغرب ورث الحضارات السابقة وهضمها جميعاً وبنى عليها، ولذا فقد كان من المؤمل ان تكون الهوة بين "حضارته" و "سياسته" أقل إتساعاً وبروزاً، ولكن الواقع المرير هو أنّ هذه الهوة كانت الأكثر اتساعاً وبروزاً بالمقارنة مع الحالات التاريخية السابقة التي أشرنا إليها آنفاً، وقد يكون سبب ذلك هو أنّ الغرب امتلك من أسباب القوة والنفوذ والسطوة ما لم تملكه أية أمة طوال التاريخ.
هل هنالك أمل في أن يصحو الغرب ويعمل على تصويب الخلل والتوفيق بين قيمه الحضارية واجراءاته السياسية؟
هل يمكن أن تولد فلسفات وحركات ثقافية تنويرية وتوعوية تؤشر على الخلل وتدعو إلى التصويب؟
هل يمكن أن يؤدي التراجع الحضاري للغرب والذي أشار إليه " شبنجلر " في كتابه انحدار الغرب ( The decline of the west) إلى مراجعة الغرب لذاته؟
هل يمكن أن يؤدي بزوغ قوى حضارية أخرى كالصين مثلاً إلى تعديل الغرب لسياساته كي تصبح أكثر إنسجاماً مع مثله الحضارية؟
إنّ كل ما سبق من تساؤلات برسم الاجابة وما علينا إلّا أن ننتظر.

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)