TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
العنف الجامعي:محاولة سوسيولوجية للفهم
26/11/2016 - 10:15pm

العنف الجامعي: محاولة سوسيولوجية للفهم
د. أسماء حسين ملكاوي
جامعة قطر- قسم العلوم الاجتماعية
طلبة نيوز

في محاولة لفهم ما حصل من أحداث عنف مفجعة في حرم أم الجامعات الأردنية تبادر إلى ذهني سلسلة من التساؤلات:
ما الذي يجعل الطالب الجامعي يترك قلمه ليحمل عصاة؟
وما الذي يجعل الطالب الجامعي يستغني عن عقله ليستخدم يديه في حل مشاكله؟
وما الذي يجعل الطالب الجامعي ينزل من مرتبة طالب العلم إلى مرتبة طالب الثأر والانتقام؟
وما الذي يجعل الطالب الجامعي يسيء إلى مكان انتماءه العلمي ليدافع عن مكان انتماءه القبلي أو المناطقي؟
وما الذي يدفع الطالب الجامعي للاستغناء عن مظهر التحضر والرقي والأناقة الفكرية والسلوكية ويستبدله بمظهر الرعاع والتخلف والرجعية؟
والسؤال المدهش أنه في الوقت الذي يعتبر فيه الأردنيون نجاح الطالب في التوجيهي خطوة أولى على طريق النجاح وبناء مستقبل واعد بدخوله الجامعة، ويفرحون لذلك فرحا تشهد عليه الشوارع والطرقات، نجد أن بعض هؤلاء الطلبة هم أول الزاهدين بالجامعة وكل ما فيها علم وتجارب ومعارف وخبرات، فما الذي حصل؟
ليس سهلا الإجابة على هذا الكم من الأسئلة الصعبة، ولكني سأحاول استخدام كل أدواتي السوسيولوجية للتوصل إلى إجابات ربما تعين كل من هو مذهول مثلي على الفهم!
لنبدأ أولا بحقيقة أن تكرار حوادث الشغب يعني أن الأمر خارج عن إطار كونها حالات فردية، تُعالج بالمصحّات النفسية، ودور الرعاية والتأهيل. وهذا يعني بكل تأكيد أنها ظاهرة اجتماعية تتصف بما تتصف به الظواهر الاجتماعية الاخرى من كونها سلوكيات جماعية، ومتكررة، خارجة عن إرادة الأفراد، ذات سلطة قهرية وجبرية، وتمارس فعلا إكراهيا عليهم، وهي إنسانية، تصيب المجتمع الإنساني، رغم التشابه الكبير بين ظاهرة الشغب وظواهر أخرى تم رصدها على عالم الحيوانات، كما تمتاز الظاهرة الاجتماعية كونها تلقائية عفوية ناتجة عن نمط التفاعل السائد في المجتمع، كما أنها تتضمن عناصر مرتبطة عضويا فيما بينها، ولها علاقات تربطها بظواهر أخرى كذلك.
إلا أن ظاهرة العنف الجامعي هذه تحوّلت إلى مشكلة اجتماعية، كونها سلكت مسلكا سلبيا، وأعاقت وظائف انساق اجتماعية هامة في المجتمع كالنسق التعليمي، ومست حاجة اجتماعية رئيسية هي الأمن المجتمعي، وخلخلت استقرار المجتمع واتزانه، إذا اتفقنا بأن البناء الاجتماعي هو مجموعة من الأنساق المترابطة التي يؤثر كل منها بالآخر، وعليه فإن الخلل الذي يصيب النسق التعليمي سيكون له آثار على بقية الأنساق الاقتصادية والسياسية وغيرها.
والخطير في الأمر أن هذه الظاهرة التي تحولت إلى مشكلة قد تتحول إلى مشاكل اجتماعية معقدة متشابكة عسيرة الحل، إذا لم يتم تداركها ومراقبتها عن كثب، خوفا من فقدان السيطرة على مساراتها التي قد تودي بالمجتمع بأكمله، خصوصا أننا نعيش في مجتمع منفتح على بعضه البعض متواصل بشكل آني ولحظي عن طريق وسائل التواصل الرقمية الحديثة، التي أصبحت سلاحا ذو حدين، فقد تكون وسيلة للتفاهم والتواصل الايجابي لحل المشكلات، وقد تكون وسيلة لنشر الكره وإثارة الفتن وإذكاء نار التعصب والأزمات.
المسار المنطقي لعلاج المشكلات الاجتماعية يتطلب فهمها أولاً، وإلى الآن فهمنا أنها ظاهرة اجتماعية تحولت إلى مشكلة اجتماعية خطيرة.
الأمر الآخر الذي يجب أن نقر به أن هذه المشكلة تعبر عن سلوكيات غير سوية، من ناحيتين: الناحية الأولى أنها تخالف السلوكيات المتوقعة من الطالب الجامعي ضمن الثقافة الجامعية، وهذا هو معنى الانحراف الاجتماعي، فكل من يشارك بأفعال العنف الجامعي هو شخص منحرف بنظر المجتمع، لأنه أقدم على أفعال غير متوقعة منه كطالب جامعي، وفق القيم والأعراف الجامعية، ووفق الصورة المقبولة للطالب الجامعي، والذي يفترض به أن يكون إنسانا عاقلا، واعيا، عارفا بحدود المقبول والمرفوض، المسوح والممنوع، والحلال والحرام، وبما أنه قام بأفعال مرفوضة ممنوعة محرمة اجتماعيا، فإنه بلا شك شخص منحرف، يستحق أن ينال العقاب الاجتماعي الرادع، وظهر ذلك واضحا من خلال ردود الفعل المجتمعية على ما حصل، فقد قرأت بحق هؤلاء من الأوصاف والمسميات ما يجعل أحدهم يذوب خجلا وخزيا مما اقترفت يداه، لا بل أن العقاب الاجتماعي يجب أن يمتد ليُحرم أيّ منهم الحصول على تزكية اجتماعية تمكنه من التقدم لطلب يد أي فتاة، أو العمل في أي مكان! إلا إذا صلح حاله وندم وشهد على ذلك الأقربون والبعيدون.
أما الناحية الأخرى، فإن فعل هؤلاء يخالف القوانين التي تضبط سلوكيات الطالب الجامعي فهم في نظر القانون مجرمون، والجريمة كما نعرفها جميعا هي مخالفة القوانين والتشريعات والأنظمة المعمول بها
في المؤسسات الاجتماعية المختلفة، والتي وضعت في الأساس بهدف حفظ الأمن والاستقرار لكل المنتمين لها. هل يشك أحد ما أن الجامعة الأردنية وغيرها من الجامعات لديها من القوانين الكافية التي تتعامل مع ما حصل من حالات الشغب الطلابي. إن أي طالب شارك في هذه الأحداث يستحق أن ينال الجزاء والعقاب دون تساهل أو تردد. وهنا يجب أن يقف المجتمع إلى جانب الجامعة في مطالبته بعقاب هؤلاء عقابا مطهرا لهم ورادعا لغيرهم، وشافعا للجرح الذي تسببوا به لمؤسستهم التي تشكل عند الكثير من خريجيها مكانة كبيرة.
إذا اعتبرنا ما حصل من شغب جامعي انحراف عن قيم المجتمع الجامعي وأعرافه، وجرم يعاقب عليه القانون، فإن السؤال يبقى، لماذا ينحرف الطالب الجامعي عن أعراف وتقاليد جامعته ومجتمعه، ولماذا يخاطر بنفسه ويرتكب فعلا جرميا يخالف القانون؟ ما الدافع لكل ذلك؟
في علم الاجتماع يعتبر الانحراف والجريمة موضوعا من موضوعات الضبط الاجتماعي، وهو العمليات المقصودة وغير المقصودة التي يتخذها مجتمع ما أو جزء من هذا المجتمع، لمراقبة سلوك الأفراد فيه، والتأكد من أنهم يتصرفون وفقا للمعايير والقيم والنظم، بهدف تحقيق الأمن والاستقرار للنظام الاجتماعي. والضبط الاجتماعي أمر هام جدا، إذ أن أول وأهم قانون في علم الاجتماع هو أن الانسان مدني بطبعه، لا يمكن له العيش منعزلا عن الآخرين، وما دام الأمر كذلك فلا بد أن يجد الناس لأنفسهم وسيلة تردع بعضهم عن بعض، وابن خلدون يؤكد أهمية وجود ذلك الوازع لما في طباع الناس الحيوانية من العدوان والظلم. وفي موقع آخر يؤكد مونتسكيو في كتابه "روح القوانين" أن لكل مجتمع قانونه الذي يناسب بيئته وطبيعته، ووضح العلاقة التي تربط القانون والضبط والظواهر الاجتماعية، وما ينبثق من هذه العلاقة من روح عامة تضبط سلوك الناس وتؤثر في تصرفاتهم. وهكذا فالضبط الاجتماعي أمر هام جدا في المجتمعات البشرية وأصبح مرادفا للتنظيم الاجتماعي.
كل ذلك يؤكد بقوة ضرورة تفعيل القوانين وجعلها رادعا حقيقيا للناس بعضهم عن بعض، إلى جانب مشاركة المجتمع بأكمله في استنكار هذه الأفعال المشينة، بشتى الطرق. وهذا الأمر يدخلنا مباشرة إلى موضوع آخر هام جدا هو الثقافة الاجتماعية السائدة في المجتمعات وهي التي تحدد فيما إذا كانت هذه السلوكيات مقبولة أو لا. وسنؤجل الحديث عن الثقافة قليلا.
نعود للقول بأن الضبط الاجتماعي والقانوني أمرين هامين يتم تحقيقهما بتفعيل القوانين من جهة ورفض المجتمع من جهة أخرى. إلا أن هناك نوع آخر من الضوابط التي كثيرا ما يتم التغاضي عنها، وهي الضوابط الداخلية، والمقصود بها، كل ما له علاقة بضبط السلوكيات من داخل ذواتنا، سواء كان ذلك بالأخلاق أو القيم أو الذوق أو الاحترام أو الضمير الذي يتحلى به أفراد المجتمعات. كم نحن بحاجة إلى تنمية كل ذلك في دواخلنا، أن يكون الذوق سيد الموقف، وأن يكون الخلق معيار حكمنا على بعضنا، والاحترام أساس تفاعلنا. وكما هو القول الشائع بأن السواقة هي فن وذوق وأخلاق، يشير إلى أهمية هذه الضوابط الداخلية النابعة من دواخلنا في ضبط حركة سير المركبات على الطرق. فإنه يمكن أن نقول؛ إن الدراسة في الجامعة، هي مركّب راقي ذاتي من الفن والذوق والأخلاق والقيم والاحترام، التي يجب أن تحكم تصرفات الطالب الجامعي في علاقته مع زملائه وأساتذته وحرّاس الأمن وعمال النظافة!
لا شك أننا نعتبر ذلك إغراقا في المثالية، فمن أين نأتي بذلك كله؟
كل ما قيل أعلاه عن أخلاق وقيم وعادات وتقاليد وأعراف وأذواق وأديان وقوانين وأفكار هي حقيقة ما يشكل ثقافة أي مجتمع، وثقافتنا كذلك؟ فما هي مكونات ثقافتنا، وكيف تتشكل هذه الثقافة وتنتقل من جيل إلى جيل.
من اين ستأتي قيم الطالب الجامعي، وعاداته وأفكاره وسلوكياته وأذواقه وأخلاقه؟ وكيف يستقيها ويمتصها فتصبح جزءا من كيانه وشخصيته؟
إنها التنشئة الاجتماعية ومؤسساتها المتعددة، بدءا من الأسرة إلى المدرسة والشارع والأصدقاء والمسجد، ووسائل الإعلام، وكل تجربة نمر فيها بحياتنا وحتى الممات. فالتنشئة هي عملية مستمرة من المهد إلى اللحد، وقودها ومادتها الخام هي الثقافة وما فيها من مكونات، فلا يمكن لأي عملية تنشئة اجتماعية أن تتم بدون وجود مكونات ثقافية تجعل من التنشئة عملية حيوية مستمرة.
ولكن ما هي نتيجة هذه العملية؟ نتيجتها الشخصية التي يملكها كل واحد منا، وما فيها من سمات وخصائص.
لنعيد ربط أجزاء كل ما قلناه باختصار، شخصية الشاب الجامعي هي نتاج عملية التنشئة الاجتماعية التي تبدأ من ميلاده إلى مرحلة دخوله الجامعة، هي نتاج ما يتشرّبه ويتعلمه الشاب قبل دخوله الجامعة من ثقافة، هذه الثقافة تتكون من عادات وقيم وأعراف وأفكار وأخلاق وتوجهات وتصورات وعادات وتقاليد وسلوكيات وانفعالات، وهي التي تشكل العقل الجمعي لأي مجموعة ثقافية، والعقل الجمعي هو الذي يشعر الفرد بأنه جزء من مجموعة أكبر تفكر وتتصرف وفقا لحالة معينة تعكس سلوكا صحيحا، وهنا تظهر سطوة أثر الجماعة في توجيه سلوك الفرد، المؤدي في النهاية إلى ما يسمى بسلوك القطيع، المستند إلى توجه فكري معين بغض النظر عن صوابه.
إذا كانت نتاج عملية التنشئة شابا جامعيا يملك شخصية انفعالية غير مستقرة، عنيفة لا سلمية، منحرفة غير مستقيمة، عشوائية غير منظمة، عاطفية لا عقلانية، شاذة لا سوية، فإن الخلل يكمن في أمرين هامين:
أولا: خلل في المكون الثقافي الذي يشكل المادة الخام للتنشئة الاجتماعية (أي خلل في القيم والأخلاق والعادات والتقاليد والأذواق و...).
ثانيا: خلل في عملية التنشئة الاجتماعية، أو أحد مراحلها (خلل في الأسر، أو المدارس أو وسائل الاعلام، ....).
قد يطول بنا الحديث إذا أردنا تناول كل مكون ثقافي على حدة، وكل مؤسسة تنشئة اجتماعية لوحدها بالتفكير والتمحيص والبحث. وهو أمر يحتاج جهود فرق عمل ضخمة. ولكن سنحاول أن نضع أيدينا على ما له علاقة بظاهرة العنف الجامعي تحديدا.
أولا: العقل الجمعي والحميّة الجاهلية
أن ينسى الطالب الجامعي أنه عضو في مجتمع كبير متنوع الأصول والثقافات والقبائل والعشائر، يعني أنه تربى على التعصب والحمية الجاهلية التي تجعله لا يدرك أو يعترف أو يحترم كل ما هو مختلف عنه. ورغم الإشارات الدينية الواضحة التي تحضنا كمسلمين على التعارف والتثاقف والتفاعل الاجتماعي الفاعل مع الآخر المختلف، إلا أننا ما زلنا منغلقين على ذواتنا، غير متقبلين لكل من يختلف عنا، ولهذا أسباب عدة، قد تكون في مقدمتها تقصير في أداء الدولة أو خلل كبير في طريقته إدارتها للشؤون العامة، ومنها عدم تفعيل القوانين وتنفيذها على الجميع بعدالة ومساواة، والسماح بتقييم الفرد على انتماءه وليس أداءه وكفاءته، ما جعل الفرد يبحث عن سند يقيمه وظهر يحميه.
ومع ذلك لا بد للأسر والمدارس والجامعات أن تعمق الشعور بالانتماء إلى دوائر مختلفة تحيط بالفرد فلا تبقيه أسير حلقة ضيقه تفسد عليه متعة الحياة وغناها.
ثانيا: حلقة مفرغة من الأزمات التي تؤدي كل منها إلى الآخر: مخرجات التعليم الأساسي وعدم القدرة على الاندماج في الإطار الجامعي
يفرح كثير من الأهالي باجتياز ابنهم لامتحان الثانوية العامة، رغم كونه لا يتقن القراءة والكتابة بشكل جيد، تجعله قادرا على فهم وتحليل المواد العلمية المتقدمة التي يدرسها في الجامعة. وعندما يكتشفون ذلك متأخرين يكون ابنهم قد كره التعليم الجامعي أو اتخذه لعبا ولهوا يقطعه بحضور بعض المحاضرات هنا وهناك، والتي لا يكون لها الأثر الكبير على أفكاره وحياته. وهو على الأغلب يكون قد دخل في أحد التخصصات الاجتماعية أو الإنسانية التي بكل أسف تقبل طلبة ذوي مستويات تعليمية متدنية، وعندما تفشل الجامعة في جذب اهتمامه والاندماج بمكوناتها الفكرية والعلمية، تحصل نتائج عكسية إذ يُدخل الطالب الفاشل إلى الجامعة تقاليد مجتمعة وثقافته المحلية، التي تحيله إلى دائرة ضيقة من الانتماء المحلي، فتدخل الجامعة في إطاره الثقافي الضيق، لأنها فشلت في إخراجه منه.
لست أنا أول من تحدث عن تدني معدلات أبناء المحافظات وضعف تحصيلهم الأكاديمي، بسبب غياب الاهتمام
نحن أمام حلقة مفرغة تتشكل كالآتي: أبناء المحافظات هم ابناء العشائر الأردنية بالدرجة الأولى، أبناء المحافظات لا يلقون الاهتمام التعليمي الذي يؤهلهم للحصول على معدلات مرتفعة في التوجيهي، تتساهل الدولة في منح أبناء المحافظات مقاعد دراسية رغم تدني معدلاتهم، الكليات الإنسانية تقبل الطلبة الضعاف، ابناء المحافظات هم أكثر الدراسين للتخصصات الإنسانية، الجامعة تفشل في إدماج هؤلاء في ثقافتها، الطلبة يدخلون ثقافتهم المحلية إلى الحرم الجامعي بسبب فشل الجامعة السابق، يحصل العنف الجامعي بصبغة عشائرية/ مناطقية.
من أين نبدأ بكسر الحلقة؟ هل نبدأ من رفع مستوى التعليم في مدراس المحافظات؟ أم من عدم قبول الجامعات للطلبة بناء على "كوتات" الأقل حظا؟ أم من تمكين الجامعات من دمج الطلبة في إطارها الثقافي؟ أم من توسيع خلقة الانتماءات الضيقة؟

ثالثا: ضعف فكرة الجامعة
الجامعة بما يشير إليه مسماها هي المكان الذي يجمع الكل، والمكان الذي يجد فيه الطالب جميع العلوم، جميع المعارف، جميع اللغات، جميع الثقافات، جميع الأعراق والديانات، هي المكان الذي عندما يغادر الطالب بيته فإنه يذهب إلى العالم الفسيح، فكيف لم تتمكن الجامعات من تمثّل اسمها الذي تحمله؟
الجامعة بهذا المعنى مكان يتسع للجميع، مكان جميل مثير مدهش، مليء بالتجارب وغني بالخبرات.
وبما هي كذلك فالجامعة والمجتمع بينهما علاقة تفاهم وود وتواصل فاعل، أين نحن من هذا؟
والجامعة كنسق اجتماعي، يتكون من مجموعة من الأجزاء الهامة، والتي لا بد لها من أن تتواصل مع بعضها البعض بفعالية عالية، من رئيس وأساتذة وطلبة وموظفين وأمن وعمال، أي خلل أو تقصير من أي جزء يترتب عليه خلل في بقية الأجزاء، وفي حوادث العنف المتكررة لا بد من دراسة دقيقة تشير إلى مكان الخلل الذي تتسرب منه أحداث العنف وتؤدي إلى اهتزاز كامل الكيان الجامعي، وتمتد آثاره إلى خارج اسوار الجامعة.

رابعا: العنف الرمزي ووجود الجامعة في العالم الرقمي:
لكل جامعة وجودين، وجود واقعي يتمثل بحرمها الجامعي الذي يضم المباني والقاعات والمكاتب والمكتبات وجميع المرافق الهامة للعملية التعليمية، ولها وجود آخر مواز له هو الوجود الرقمي الذي لا يقل أهمية عنه، ويتمثل بكل ما يحمل اسم الجامعة من مواقع وأخبار وصفحات رسمية، وغير رسمية ينشئها الطلبة ومجموعاتهم الثقافية المختلفة.
وفي عالم أصبح فيه كل شيء رقميا، وأصبح الفرد منتميا لكثير من التنظيمات الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت أشكال جديدة من العنف اللامادي، يكون باستخدام اللغة والرموز التي تلحق الأذى بالآخرين، ونلاحظ ذلك بكثرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت مكانا لتبادل السباب والشتائم والحط من قدر الآخرين، وأكثر ما يكون العنف الرمزي مؤذيا على مواقع تحمل اسم الجامعات التي هي الأصل مكان للحوار والنقاش العقلاني الأخلاقي! الأمر الذي يتطلب مراقبة حثيثة، ليس بالضرورة أن تتمكن الجامعة من منع العنف الرمزي على المواقع والصفحات التي تحمل اسمها وإنما يمكنها أن تعاجل الأحداث قبل وقوعها، وتستدرك المخاطر قبل انفجارها. وهذا كان ممكنا في أحداث العنف الأخيرة التي حصلت في الجامعة الأردنية، فقد استطعت خلال سويعات رصد كثير من الصفحات على موقع الفيسبوك التي كانت تعج بالرسائل التي تشير إلى وجود مشكلة حقيقية بين مجموعتين من الطلبة، وكانت هناك تحذيرات لما وقع. وإذا تأخرت الجامعة في تدارك الأمر قبل وقوعه ورصد الأطراف المحرضة، فإن بإمكانها الآن رصد جميع الأفراد المشاركين ومحاسبة كل من شارك في إذكاء الفتنة، والتحريض عليها، وربما أمكنهم من تتبع جذورها وتطورها، لتحصيل صورة أوضح عن حقيقة ما حصل.

خامسا: البناء الاجتماعي للواقع ممكن!
خلصنا من كل ما سبق بأن العنف الجامعي هو نتيجة خلل في مجموعة من الأنساق الاجتماعية، أولها النسق الأسري، والعائلي، والتعليمي، والديني، والاقتصادي، والسياسي كذلك.
وهذا الخلل في مجموع هذه الأنساق مرده خلل أعمق وأهم يشمل الثقافة التي تقوم عليها هذه الأنساق، الثقافة السائدة في كل مجتمع هي من تقدم ا لصورة النهائية لأفراده.
رغم الواقع الحالك الذي تعيشه أمتنا ودولنا العربية ومجتمعنا الأردني، فإن هذا لا يعني الركون إلى التشاؤم والاحباط، فهناك حالات كثيرة تدعو إلى التفاؤل والقدرة على التعامل مع الكم الهائل من الأزمات المتراكمة، ربما بحكمة أم، أو توجيه أب، أو أمانة معلم، أو حرص مدير، أو أخلاق موظف، أو حكمة شيخ، أو ذكاء سياسي، أو مبادرة فرد، أو تميز طالب.
إن إمكانية بناء الواقع الاجتماعي بفعل مجموع الأفراد أمر ممكن، يتطلب ذلك منا الانتباه إلى تفاصيل حياتنا اليومية، فبدل أن نهتم بدراسة ظواهر كبيرة كظاهرة العنف بنظرة واسعة شمولية، تحيلنا إلى نتائج متشابهة محبطة يعسر حلها، فإن علينا كعلماء اجتماع النزول إلى أرض الواقع ودراسة تفاصيل حياة الطالب الجامعي، كيف يقضي يومه في البيت والجامعة، كيف تمر عليه الساعات في الجامعة، كيف يتعامل مع أساتذته، كيف يفكر، كيف يأكل، كيف يلبس، كيف يمارس عملية التعليم سواء كان التعليم في قاعات الدراس أم التعليم الذاتي، كيف يدرس ويستعد للامتحانات، كيف يتصرف في مختلف المواقف في حياته الجامعية... هذه النظرة القريبة لواقع حياة الطلبة ستمكننا من فهم أعمق لطريقة تفكيره وتوجهاته ونظرته للحياة والجامعة ولنفسه وللآخرين. وتساعدنا في وضع اليد على مكامن الخطر قبل خروجها عن السيطرة.

في الوقت الذي نشعر بالأسى لما حصل في الجامعة الأردنية من أحداث مشينة، لا ننسى أن نفرح للنجاحات التي حققها الأردنيون في الأيام القليلة الماضية، وأن يخضع هؤلاء للدراسة ايضا لنستطيع بناء نماذج للتفاعلات والسياقات الاجتماعية والطرق التي شارك فيها هؤلاء مجموعاتهم الاجتماعية في بناء واقعهم، ومحاولة إضفاء الطابع المؤسسي لها، وتحويلها إلى تقليد صالح لإعادة الانتاج.

التعليقات

عضو هيئة تدريس (.) السبت, 11/26/2016 - 23:05

دراسة وافية تضع الأمور في نصابها، ليت إدارات الجامعات والأهالي والحكومة تقرأ وتتصرف بشكل علمي لمواجهة الأزمة في ضوء التحليل العميق الذي قدمته الدكتورة أسماء ملكاوي. لا بد من كسر الحلقة المفرغة المؤدية إلى الظاهرة وتعظيم دور مؤسسات الضبط الاجتماعي

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)