TLB News (طلبة نيوز للإعلام الحر)
العشائرية والدولة الحديثة 
17/10/2017 - 12:15am

د. هاني احمد الشبول

شاهدنا في الآونة الأخيرة من تاريخ مجتمعنا الأردني المعاصر حالة واسعة من الارتداد والانسحاب نحو العشيرة والعشائرية، حتى أصبحت أية مشكلة شخصية بين شخصين تتحول إلى اقتتال واحتراب عشائري شامل. وأخذت الأصوات الأردنية المتنورة ترتفع محذرة من عودة تلك الظاهرة العصبية وما يترتب عليها من أمراض اجتماعية، تفعل فعلها في بنية وهياكل المجتمع إضافة إلى خطورتها على الوحدة الوطنية الأردنية.
لا تعتبر العشائرية من مظاهر الطبيعة العمياء، بل هي خلق إنساني مستند إلى روابط نفسية كلاسيكية أساسها التجمع العصبوي القائم على مصالح شخصية، (بغض النظر عن صغرها او كبرها). اذا، فهي ظاهرة يمكن لجمها والسيطرة عليها والتحكم بها، ولو في حدود، كما يمكن إطلاقها من القمم حسب توقيت المصالح وبروزها وموائمتها لفترة ما! 
وتعود العشائرية في جذورها إلى ما قبل القروسطية، أي انها خارج روح العصر، وبالتالي فهي حالة رجعية، لم تعد تتلاءم مع ما يفترض من التطور الاجتماعي والسياسي السائد في البلد، ومن شأنها أيضا أن تعيق المساعي الوطنية التي تبذل لتطوير مجتمع "مدني" يقوم على المواطنة، الأمر الذي يجعل التسليم بوجودها والتحالف معها أمراً محرجاً من الناحية الحضارية.
في المجتمع المدني، بمفهومه الحديث، تقوم العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الأفراد وبينهم وبين الدولة على أساس عقد اجتماعي حر، تتحدد بموجبه حقوقهم وواجباتهم والقوانين والشرائع التي تنظم وجودهم الاجتماعي وسلوكهم السياسي والاقتصادي. فهو إذا مجتمع الأفراد الأحرار المتساوون أمام القانون، وهو مجتمع تسوده قيم ومعايير القبول بالآخر وتعدد الآراء والأفكار، وحل الصراعات والخلافات قانونيا. أما في المجتمعات الأهلية (مثل المجتمعات العشائرية والطائفية) يكون الفرد مندمج اندماجاً عضوياً في عشيرته أو طائفته وانتماؤه إليها قسري، فلا يملك حق نقدها أو مخالفتها، وكل خروج على أعرافها يضعه زعمائها في خانة التكفير والعصيان، فالقيم والمعايير والأعراف والأنظمة مفروضة فرضاً، لا خيار في قبولها أو رفضها. ولا تعترف العشيرة بالفرد وحريته (الحرية الشخصية)، ولا تُراعى المساواة بين أعضائها، فهي قائمة على مراتبية طبقية. 
فتركيبة المجتمعات الأهلية تشكل، أياً يكن شكلها، إرباكاً لقيام المجتمع المدني ونهوضه على أسس حديثة، وتعيق تشكل الفرد بفكرة الليبرالي والذي هو أصل المجتمع المدني وأساسه.
أن الخلاص من العشائرية، ومواجهة ما تفرزه من مظاهر التخلف وبعث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، هو مسؤولية كل القوى الوطنية الحية والمتنورة والمؤمنة والمقتنعة بهويتها الوطنية، ومسؤولية مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وغيرهما من القوى التي تنادي بقيم العدل والمساواة والتسامح والتعددية، وإقامة مجتمعات ديمقراطية تقوم على أساس المواطنة الكاملة بعيداً عن الجنس والدين والطائفة والعشيرة والمنشأ الاجتماعي.. تصان فيها الكرامة والحرية الشخصية، وتمارس فيها الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ويسود فيها القانون والمساءلة والمحاسبة وغيرها. هذا النضال (برأيي) لن يؤتي أكله وثماره إلا من خلال مناهج تعليمية تؤسس لبنية مجتمعية تقوم على أساس فهم وتربية وطنية واضحة، تبدأ من مرحلة المدرسة إلى مرحلة الجامعة، فبدون ذلك فإننا سنبقى غارقين في ثقافة الجهل والتخلف، هذه الثقافة التي لن تنتج مجتمعات حضارية. 
مع تأسيس الدولة الوطنية الحديثة بركائزها الوطنية القائمة على حكم القانون وسيادته لم يعد للتكتلات العشائرية وأدوارها ( أجابية كانت أم سلبية) أي أهمية، بل أمست حجر عثرة أمام التطور الاجتماعي والاندماج والوطني وإرساء أسس المدنية. حيث تعد العشائرية اليوم من التشكيلات السياسية- الاجتماعية المضادة لحركة التاريخ.
فبينما ترنو مملكتنا الأردنية الهاشمية بقيادتها المتنورة، وبمنطلقاتها العقلانية إلى ترسيخ أسس الدولة الوطنية الحديثة، بأدواتها وفكرها، لا تزال العشائرية تتحكم بجزء من مسار تقدمها، وتعرقل عملية الانتقال إلى المجتمع المدني، وتؤخر عملية تكوين مجتمع وطني واحد جميع (الأردنييون) فيه مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات.
فحتى يتحقق مفهوم الدولة الوطنية الحديثة كاملا، على المواطن الأردني أن يكون انحيازه أولا للوطن، وانتماءه أولا للدولة، فلا يحتمي بالعشيرة بديلا عن الدولة والقانون.

اضف تعليقك

Plain text

  • No HTML tags allowed.
  • Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
  • Lines and paragraphs break automatically.
Image CAPTCHA
أدخل الحروف التي تظهر بالصورة (بدون فراغات)